صناعة الاستبداد

الاستبداد _ حسب تعريف المفكر السوري عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد”_ هو التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى.

لن أبحث هنا في الاستبداد كمفهوم عام وطبائعه وتجلياته كما فعل الكواكبي بل في كيفية صناعة المستبد ومن يقوم بذلك؟

لا شكّ في أنّ صناعة المستبد أمر ليس سهلاً كما يتبادر إلى الذهن للوهلة الأولى، فهو يحتاج إلى معرفة عميقة بالنفس البشرية ودراسة دقيقة لتركيبة الشخص المختار ليكون ديكتاتوراً بعد ذلك تأتي مرحلة إعداده التي قد تستغرق سنوات ليتم وضعه في رأس السلطة في بلاده ويحقّق الهدف المنشود ثمّ تقوم القوى التي صنعته بمحاربته وإزالته عندما ينتهي دوره المناط به ويصبح عبئاً على أسياده، فلكلّ مرحلة موظف خاص بمؤهلات خاصة.

مشوار طويل ومدروس بدقة، حرصت القوتان العظميان في العالم أمريكا والاتحاد السوفيتي على خلقهما في الشرق الأوسط لحماية مصالحهما الخاصة، وتشكل التّجربة السّورية خير مثال على تلك الصّناعة، صناعة المستبد الذي قام بحماية مصالح الدول الكبرى ونهب ثروات بلاده وقمع شعبه كي يحصر اهتمامه بكيفية الحصول على لقمة الخبز. وقد استكان الغرب إلى هذه التّجربة النّموذجية فقد استطاع حافظ الأسد أن ينفذ كلّ المطلوب ويشكّل من الجيش السّوري درعاً حصينة لحماية الحدود الإسرائيلية والأهم من ذلك استطاع خلق القاعدة المناسبة لانتقال السّلطة إلى ولده، إذ بمجرد أن أشارت مادلين أولبرايت وهي على قبر حافظ باتجاه بشار تمّ الأمر وانتهى.

تزامنت مرحلة صناعة المستبدين السّياسية مع موجة إعلامية موجهة شاركت فيها كلّ الوسائل الإعلامية الغربية بما فيها أفلام هوليود وكان الهدف من هذه الموجة تكريس صورة دنيئة وقذرة للعربي (مهووس جنسياً ـ حرامي ـ إرهابي ـ غبي ـ متخلف) عشرات السنين وملايين الدولارات تصرف ضمن هذا الإطار، لكن الذي فاجأ الغرب وأحبط هذا التّوجه القذر اجتماع ما يزيد عن اثني عشر مليون إنسان مدني سلمي في ميدان التحرير وغيره يرفعون شعارات مدنية ديمقراطية أذهلت العالم، في تلك اللحظة شعر الغرب بحجم الخطر فامتص غضبة الشعب في مصر وقرّر معاقبة الشعب في سوريا واليمن. وما زال يعمل على تكريس الحاكم المستبد فيهما.

وإذا كان الجانب السياسي ظاهراً للعيان من خلال الخراب الذي قامت به الدول الإقليمية بإيعاز أو باندفاع خاص فإنّ الجانب السينمائي له أسلوبه الخاص من خلال ما تلعبه المخيلة والصورة عالية التقنية حيث تستحوذان على المتلقي بشكل آسر فيتقبّل ببساطة أيّ تشويهٍ للواقع وأيّ تحريفٍ للتاريخ خاصّة إن كان متواضع الثقافة.

عرض فيلم “عشرة آلاف عام قبل الميلاد” بعد موجة إعلانات ضخمة عام 2008 في الكويت والولايات المتحدة.

يبث الفيلم رسائل خفية عن طريق عرضه للحياة في حقبة غامضة نسبياً حتّى بالنّسبة للنخب المثقفة ويمكن القول إنّها لا تزال عصيّة حتّى على علماء الأنثروبولوجيا والآثار.

تخطف العفاريت التي تمشي على أربع حبيبة البطل الصّياد فيقرّر اللحاق بهم لإنقاذها.

في مشوار البحث عن العفاريت يتعرّف البطل على هوية أعدائه، فهم أتباع أحد “الأسياد” ينتشرون في الأرض لخطف الناس واستعبادهم وتسخيرهم لبناء الأهرامات! وهم ثلاثة بقي منهم واحد ولا يعرف أحد من أين جاؤوا!

أثناء بحث البطل يكتشف أنّ أباه سبقه لقتال هؤلاء ومات قبل أن يحقّق هدفه، التّاريخ المشرّف للأب البطل يعطي الابن جرعة قوة وإيمان لإكمال مشوار أبيه بتشكيل تحالف دولي مدعوم من قوة إلهية “الروح الأم لقبيلته” التي تُسخِّر له ولرفاقه قوى الطبيعة وتسانده في كلّ خطوة حدّ بقائها من دون طعام ولا نوم شهوراً طويلة. وساعده أيضاً نبوءات الكهنة في القبائل التي مرَّ بها.

الملفت في الفيلم أنّ “المستبد” الذي يلاحقه البطل كلّما غضب لا يرضى إلا بتقديم أحد الرجال المستعبدين الذين اختطفهم وسخّرهم لبناء هرمه الخاص أضحية له! ولا يقدّم الأضحية ضمن طقس ديني بل برميه من موقعه حيث يعمل في الهرم إلى الأسفل فيرتطم بمعدات البناء والحجارة ويموت، وينتقيه دائماً من أقوى الرجال.

والأضحية تذكرنا حتماً بتقديم صدام حسين للمشنقة في عيد الأضحى من قبل الأمريكان الذين أغضبهم طيشه وحماقاته فانقلبوا عليه بعد أن أغرقوه في مستنقع الحرب مع إيران لمدة عقد من الزمان. 

أسطورة البطل ذي العينين الزرقاوين:

وكي تكتمل صورة البطل الفرد لابدّ من إشكالية توقعه في ورطة فقد كان عدد جيشه قليلا قياساً لجيش المستبد، وهنا تأتي الإشارة ليستعين بالناس المضطهدين والمستعبدين الذين يفوق عددهم عدد جيش المستبد.

يقتحم القصر وتتم المفاوضات بينه وبين المستبد، ويخيّر بين أن يعود مع حبيبته سالماً أو تمزّق إرباً، يسأل البطل السؤال الأكث أهمية “وباقي المستعبدين؟”. فيقول المستبد إنّهم سيبقون تحت إمرته.حينها يسدّد البطل رمحه ويطلقه إلى قلب المستبد ليخرّ صريعاً وتبدأ المعركة الفاصلة التي تنهي عصر الظلم في أعالي نهر الأفعى!

يموت المستبد لتبدأ أسطورة الشاب ذي العينين الزرقاوين الذي جاب الصحاري الرملية والجليدية، قاطعاً البراري والوديان لينقذ العالم من الاستعباد، مكرّساً فكرة “الأمريكي المنقذ والمخلّص” وهو الهدف الذي سعت إليه هوليود منذ بداية إنتاجها للأفلام. فهو الذي أنقذ الهنود الحمر وحماهم، كما تدخل في ثقافة الكونغ فو والساموراي وتفوّق ثقافياً وعضلياً على أصحاب الثقافة ذاتها، ولم يكتفِ بذلك بل شوّه التّاريخ وتجاهل الحقائق العلمية ليثبت انتقال البطل “ذي العينين الزرقاوين” من بلاد الأزتيك إلى أمريكا الوسطى ليصل إلى بلاد النيل “الأفعى” حيث يبني المستبد هرمه فينقذ حبيبته التي ترمز إلى “مصالحه الخاصة” وينقذ الشعب المضطهد ويعيد له كرامته.

استغباء المشاهد أمر درجت عليه السّينما الأمريكية، وهذا الفيلم يترك وراءه عدّة تساؤلات:

هل وجدت السفن التي تعبر الأنهار والبحار قبل 12 ألف سنة من الآن؟

وهل ركب الإنسان الحصان في ذلك الوقت؟

وهل يعود بناء أقدم هرم إلى ذلك التّاريخ؟ إذا كان المؤرخون يؤكدون بناء هرم خوفو سنة 2700 ق م؟ وأخيراً وهذا الأهم بالنّسبة إلى القبائل المجاورة لمنطقة الهرم، هل كلمة (ياهلا) هي دعوة للحرب؟

لا شكّ في أنّ صنّاع الفيلم يدركون هذه الأخطاء التّاريخية لكنّهم يزيفون التّاريخ من أجل إيصال الفكرة معتمدين على جهل المشاهد، وأضعف الإيمان على عدم اهتمامه بالحقائق بل بالمتعة التي يحصل عليها من مشاهدة الفيلم.

في خطاب البطل الذي وجهه قبل إعلان الحرب على المستبد إلى الجيوش المتحالفة معه قال: نحن أبناء قبيلة أليغال حاربنا الإله العظيم المانكا (فيل الماموث) وانتصرنا عليه، أتعرفون لماذا؟ لأنّنا كنّا نحارب كأنّنا شخص واحد.

فهل يبرّر الفيلم للعالم ما حدث وانتهى؟ أم أنّه يؤسس لثقافة الغزو الجماعي ضدّ دكتاتوريي العالم بعد أن يساهم في صناعة هؤلاء المستبدين؟

الغريب أنّ أعداء هذا البطل الأمريكي هبطوا من الفضاء فشعوب الأرض لا تعرف شيئاً عنهم وتخافهم تماماً مثل هذا الكائن الهلامي الإرهابي الذي لا أحد يعرف عنه شيئاً، كلّ ما في الأمر أنّه “داعش” وكان قبل ذلك “القاعدة” وبعد المعارك الضارية جداً التي لم تبقِ في الرقة حجراً على حجر وكذلك في الموصل يتساءل كثير من النّاس أين تبخّر الدواعش؟ أين قادتهم؟ أين صور قتلاهم؟ أين صور أسراهم؟ كلّ ذلك ليس مهماً، المهم أنّ البطل الأمريكي انتصر. وسيكمل انتصاره بالإبقاء على بشار كي يرسخ في أذهان الشّعوب العربية صورة من يتجرّأ ويطالب بالحريّة.

على هامش سيرة العفاريت:

ذلك المشوار ارتبط في ذهني بالعفاريت “الزرق” لقب أطلقته الفنانة السّورية “يارا صبري” _التي تبنّت قضية المعتقلين_ على المخابرات منذ بداية الثورة السّورية. العفاريت الزرق في الفيلم تغلّب عليهم البطل الصيّاد وأنقذ حبيبته لكنّ العفاريت الزرق الذين يعتقلون السوريين ويزجون بهم في المعتقلات ليقضوا تحت التّعذيب لم تستطع قوى العالم المتحضر مجتمعة القضاء عليهم ولا الوصول إلى عرينهم لإنقاذ من تبقّى من المعتقلين الذين سيلقون المصير نفسه عاجلاً أم آجلاً.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه