شيزوفرينيا الاصطفاف الثوري

 

الشيزوفرينيا أو الفصام هو مرض نفسي يصاب به البعض فيربك قواهم العقلية، ويربك حساباتهم الحياتية، وفي عالم السياسة نجد أن هذا المرض موجود لدى الكثير من النخب السياسية سواء الإسلامية أو الليبرالية واليسارية، فتجدهم يتحدثون حديثا رائعا عن الاصطفاف وضروراته العملية والمنطقية، ولكنهم في الواقع يفعلون عكس ذلك، حيث يكونون الأسرع من غيرهم في استدعاء أجواء الاستقطاب التي عانت منها مصر طويلا بعد ثورة 25 يناير، وبلغت ذروتها منذ انقلاب الثالث من يوليو 2013.

حديث الاصطفاف الثوري بدأ منذ العام 2015 أي بعد عامين على الإنقلاب، وبعد أن بدأت سوءات النظام الانقلابي تظهر لبعض من أيدوه، وتصاعدت الدعوات مع الوقت مع تصاعد قمع النظام ضد الجميع وعدم اقتصاره على أنصار الشرعية فقط كما كان الوضع خلال الأعوام الثلاثة الأولى.

حالة الاستقطاب

ونظرا للحالة الاستقطابية الشديدة التي عاشتها القوى الثورية، والتي نفخ فيها العسكر كثيرا ليستخدموها في الانقضاض على ثورة يناير ومكتسباتها، فقد تركت تلك الحالة جروحا غائرة في نفوس الكثيرين خصوصا في صف أنصار الشرعية الذين دفعوا أثمانا باهظة دفاعا عن الثورة، وعن التجربة الديمقراطية، ولم يخل بيت لأحدهم من شهيد أو مصاب أو معتقل، أو مطارد، ورغم أن تلك الأضرار تحققت على يد سلطة الانقلاب بالأساس إلا أن أنصار الشرعية لم يغفروا لشركائهم في الثورة انحيازهم لتلك السلطة وتشجيعها على هذا القمع، ولسان حالهم يقول ” وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهند”.

في المقابل لم تنس القوى الثورية الليبرالية ما حدث معها في مذبحة محمد محمود، وتهميشها سياسيا بعد ذلك، ويسوقون لذلك الكثير من الأمثلة التي يخلصون منها إلى صعوبة أو استحالة التعاون مع الإسلاميين، وقد طالعنا مؤخرا مثل هذه الدعوات لبعض منظريهم مثل علاء الأسواني وعز الدين شكري فيشير 

مع تصاعد قمع النظام للجميع (إسلاميين وعلمانيين) تصاعدت مجددا دعوات الاصطفاف الثوري، مؤكدة أن فريقا بمفرده لن يكون بمكنته إزاحة النظام، ولكن الكثيرين ممن يرددون هذه الدعوات من الرموز والنخب يضمرون في أنفسهم شكلا مختلفا للاصطفاف الذي يقصرونه على أشباههم سياسيا فقط، بينما الأصل أن تضع قاعدة أو جملة من القواعد الموحدة تطبق بلا تمييز، فمثلا هناك شبه اتفاق على اعتماد قاعدة التعاون في المشتركات وترك  أو تأجيل الأمور الخلافية، وهي القاعدة الذهبية التي وضعها صاحب المنار محمد رشيد رضا “نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا عليه” والتطبيق العملي لهذه القاعدة يعني أن يحدد المتحاورون المشتركات بينهم سواء كانوا ينتمون لقوى إسلامية أو علمانية، ثم يتم التوافق على مشروع عمل في تلك المشتركات إلا أننا عند التطبيق العملي لهذه القاعدة نجد حالة انتقائية تقبل هذا وترفض ذاك بناء على انطباعات سلبية مختزنة في الذاكرة، وليس وفقا للقواعد المحددة، الإسلاميون في غالبهم حينما يتحدثون عن الاصطفاف فإنهم يقصدون القريبين منهم ، أي من تيارهم أو من ليسوا على خلاف معهم، وكذا الأمر بالنسبة لليبراليين في معظمهم حين يتحدثون عن الاصطفاف فإنما يقصدون مجموعات وشخصيات من داخل تيارهم أو قريبة منهم فقط .

التبني بإخلاص

رغم تلك الصورة القاتمة إلا أن هناك شخصيات إسلامية وليبرالية – وإن بدت قليلة- إلا أنها تتبنى مشروع الاصطفاف بإخلاص نظرا لإدراكها لحجم الخطر الذي تمر به مصر، ونظرا لإدراكها لأخطاء الجميع من كل التيارات وضرورة تجاوز خلافات الماضي، والعمل للمستقبل، وهناك الكثير من حالات العمل المشترك تتم حاليا دون وجود مظلة سياسية جامعة تحدد المسارات مثل التنسيق بين الحقوقيين وكذا المجموعات الشبابية المتنوعة في مواجهة انتهاكات النظام خاصة هوجة الإعدامات الأخيرة، ومثل الموقف الرافض للتعديلات الدستورية بشكل عام رغم التنوع في طريقة التعبير عن هذا الرفض.

ولعل المظهر الأحدث للعمل الشعبي المشترك هو الاستجابة الواسعة للحملة التي أطلقها الإعلامي معتز مطر بعنوان (#اطمن_انت_مش_لوحدك) والتي أخذت شكلا بسيطا للمقاومة السلمية تمثل في الطرق على الأواني ونفخ الصافرات، والكتابة على العملات الورقية الخ، وقد وجدت الحملة دعما من العديد من الشخصيات السياسية المتنوعة، وهو ما يثبت أن الكلام النظري السوفسطائي حول الاصطفاف والعمل المشترك، وكتابة وثائق بالمبادئ المشتركة والمشاريع المستقبلية أقل حافزا للناس من المبادرات الفعلية على الأرض، والتي يمكن أن تبرز أو تصنع حالات توحد دون أي تنظير فلسفي الخ.

بدايات تحرك شعبي

لنترك مصطلح الإصطفاف المستفز للبعض!!، ولنتحدث عن واقع يتطور سريعا في مصر، حيث شهدنا خلال الأيام الماضية بدايات تحرك شعبي دون دعوة من أي فصيل في القاهرة والإسكندرية ودمنهور والفيوم، وهذا التحرك الشعبي العفوي على ما يتضمنه من إيجابيات وبث روح التفاؤل مجددا، إلا أنه يمثل جرس إنذار للقوى المناهضة والمعارضة للنظام، لأن هذا الحراك يحتاج إلى تنظيم ويحتاج إلى برنامج عمل واضح يحدد للناس خطواتها حتى تستطيع جني ثمار تلك التحركات، ولا يتركها نهبا لنظام فاجر لا يرقب في أي معارض إلا ولا ذمة.

لا مجال للتنابذ الآن، ولا مجال لاستدعاء خلافات الماضي، ولا مجال للدخول في معارك فرعية تلهينا عن المعركة الأصلية مع نظام السيسي القاتل، ولا عذر لمتخلف عن إنقاذ الوطن، ولا فضل لأحد على أحد إلا بقدر عطائه لإنقاذ وطنه، ولا مكان لمثيري الفتن والضغائن، فمعركة الحرية والكرامة تتسع للجميع، وبعد الخلاص من هذه الطغمة تتسع المنافسة السياسية النزيهة للجميع أيضا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه