شهادة المرأة نصف شهادة الرجل.. متى ولماذا؟

 

 

تحدثنا في مقالنا السابق: (مراجعات حول شهادة المرأة في الإسلام) أن الشائع والمشهور أن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، وأن هذا الحكم دائم في كل الحالات، وهو ما مهدنا له بأنه غير دقيق، وقلنا: إن شهادة المرأة مقابلة لشهادة الرجل، مثل ميراثها معه، نجدها قد تكون تارة نصف شهادته، وفي سياق معين، وتارة تتساوى معه، وهو الأصل، وتارة تقبل شهادة الرجل ولا تقبل شهادة المرأة، وتارة تقبل شهادة المرأة ولا تقبل شهادة الرجل، وتارة تقبل شهادة المرأة منفردة، وتارة تقبل شهادة امرأتين منفردتين. واليوم نتناول الحالة الوحيدة التي تكون شهادة المرأة فيها نصف شهادة الرجل، ومتى ولماذا؟ وهل هذا حكم دائم أم أنه بني على علة معينة؟!

من أبرز النصوص وأهمها وأكثرها إشكالا في قضية شهادة المرأة في القديم والحديث، هي آية سورة البقرة، وذلك في معرض حديث القرآن الكريم عن كتابة الديون وتوثيقها، يقول تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) البقرة: 282.

هل شرط الشهادة خبرة الشاهد أم جنسه؟

وهنا عدة نقاط مهمة ينبغي أن نعيد التفكير في هذه القضية في ضوئها، وأهمها: هل العلة هنا في جعل شهادة المرأة في توثيق الديون، والمعاملات المالية، هي علة الجنس، أي أنها أنثى، أم علة أنها لا خبرة لها بالحياة المالية؟ والذي يتضح من الآية الكريمة وسياقها، وكذلك الموقف العام من الشهادة على المعاملات المالية، أن الإسلام هنا يركز على خبرة الشاهد بما يشهد عليه، وليس على جنسه، من حيث الذكورة والأنوثة.

فالعلة هنا ليست اتهاما للمرأة، لكن لأن تاريخ العرب آنذاك لم يعرف منهم نساء معنيات بالتجارة، والمعاملات المالية، ولا يكاد يعرف في العرب نساء تاجرت اللهم إلا بعض النساء كخديجة بنت خويلد رضي الله عنها مثلا، ولذا كانت خبرة المرأة المالية قليلة. وقد حاول كثير من فقهائنا ومشايخنا جعل علة شهادة المرأة نصف الرجل هنا، بسبب ما يعتريها من الدورة الشهرية، وأن ذلك يعكر مزاجها، فيؤثر على شهادتها، ولكنه ذكر علة مهمة، إذ يقول:

(تكلم المفسرون في هذا وجعلوا سببه المزاج، فقالوا: إن مزاج المرأة يعتريه البرد فيتبعه النسيان، وهذا غير متحقق، والسبب الصحيح أن المرأة ليس من شأنها الاشتغال بالمعاملات المالية ونحوها من المعاوضات، فلذلك تكون ذاكرتها فيها ضعيفة ولا تكون كذلك في الأمور المنزلية التي هي شغلها، فإنها فيها أقوى ذاكرة من الرجل، يعني أن من طبع البشر ذكرانا وإناثا أن يقوى تذكرهم للأمور التي تهمهم ويكثر اشتغالهم بها، ولا ينافي ذلك اشتغال بعض نساء الأجانب في هذا العصر بالأعمال المالية فإنه قليل لا يعول عليه، والأحكام العامة إنما تناط بالأكثر في الأشياء وبالأصل فيها).[1]

وقد أيده في ذلك العلامة الشيخ محمود شلتوت رحمه الله وزاد في الأمر وضوحا فقال: (والآية جاءت على ما كان مألوفا في شأن المرأة، ولا يزال أكثر النساء كذلك، لا يشهدن مجالس المداينات، ولا يشتغلن بأسواق المبايعات، واشتغال بعضهن بذلك لا ينافي هذا الأصل الذي تقضي به طبيعتها في الحياة. وإذا كانت الآية ترشد إلى أكمل وجوه الاستيثاق، وكان المتعاملون في بيئة يغلب فيها اشتغال النساء بالمبايعات وحضور مجالس المداينات، كان لهم الحق في الاستيثاق بالمرأة على نحو الاستيثاق بالرجل متى اطمأنوا إلى تذكرها وعدم نسيانها على نحو تذكر الرجل وعدم نسيانه). [2]

رفض كثير من الفقهاء لشهادة العبيد:

والأمر الذي يؤكد أن الشهادة في الإسلام لا ترتبط بجنس دون آخر، إنما تركز على خبرة الشاهد بما يشهد عليه، فمثلا علل كثير من الفقهاء في الآية، أن كلمة (رجالكم) أي أحراركم، فأخرجوا منها العبيد، وهم رجال، فارتباط الشهادة هنا ليست بالجنس، بل بالخبرة، وليس ذلك عن عصبية منهم ضد العبيد، بل لنفس السبب المذكور في المرأة، يقول العلامة الطاهر ابن عاشور رحمه الله: (وظاهر الآية قبول شهادة العبد العدل وهو قول شريح وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وعن مجاهد: المراد الأحرار، وهو قول مالك وأبي حنيفة والشافعي. والذي يظهر لي: أن تخصيص العبيد من عموم الآية بالعرف وبالقياس، أما العرف فلأن غالب استعمال لفظ الرجل والرجال ألا يرد مطلقا إلا مرادا به الأحرار، يقولون: رجال القبيلة ورجال الحي، قال محكان التميمي:

يا ربة البيت قومي غير صاغرة ضمي إليك رجال الحي والغربا

وأما القياس فلعدم الاعتداد بهم في المجتمع لأن حالة الرق تقطعهم عن غير شؤون مالكيهم فلا يضبطون أحوال المعاملات غالبا ولأنهم ينشأون على عدم العناية بالمروءة، فترك اعتبار شهادة العبد معلولا للمظنة وفي النفس عدم انثلاج لهذا التعليل). [3]

شهادة البدوي على القروي:

والدليل الآخر المهم والقوي هنا، أن شهادة المرأة مرتبطة بخبرتها، وليس بجنسها، هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يشهد “لَا تَجُوزُ شَهَادَة بَدَوِيٍّ عَلَى صَاحِبِ قَرْيَةٍ”.[4]

قال الإمام الخطابي: (يشبه أن يكون: إنما كره شهادة أهل البدو لما فيهم من الجفاء في الدين، والجهالة بأحكام الشريعة، ولأنهم في الغالب: لا يضبطون الشهادة على وجهها، ولا يقيمونها على حقها، لقصور علمهم عما يحيلها، ويغيرها عن جهتها). [5]

وخلاف الفقهاء في حكم شهادة البدوي على القروي موجود ومدون في كتب الفقه، فقالت طائفة: شهادته جائزة إذا كان عدلا على ظاهر قوله: (ممن ترضون من الشهداء) لا فرق بين القروي والبدوي في ذلك، إذ هما جميعا في سائر الأحكام واحد. هذا قول ابن سيرين والشافعي وأبي ثور، وبه قال النعمان وأصحابه. [6]

فواضح أن موقفهم هنا كذلك ليس تعصبا ضد البدو، بل العلة عندهم هو خبرة الشاهد بالواقع الذي يشهد فيه، فعدم شهادة بدوي على قروي، أو على أهل الأمصار، مقصود بها قلة خبرته بهذا الواقع ومعاملاته، فهذا النقاش من الفقهاء وموقفهم مبني على حرصهم على حقوق الناس المالية وغيرها، مخافة ضياعها أو التفريط فيها، وهو نفس موقفهم من شهادة المرأة، التي لم تكن تختلط بالمجتمع، وتشارك في أموره العامة من المعاملات، والسياسة، وغيرها. فكل ما ذكرناه هنا يعلل ويفسر علة نصوص الشرع التي بينت أن شهادة المرأة تحتاج إلى امرأة معها تذكرها، وتعينها على شهادتها، وأن الشهادة في الإسلام تهتم بخبرة الشاهد، لا جنسه.

 


[1] انظر: تفسير المنار لمحمد عبده ورشيد رضا (3/104).

[2] انظر: الإسلام عقيدة وشريعة لمحمود شلتوت ص: 240.

[3] انظر: التحرير والتنوير لابن عاشور (3/108).

[4] رواه أبو داود (3602) وابن ماجه (2367) عن أبي هريرة رضي الله عنه، وصححه الألباني في إرواه الغليل (8/289) والأرناؤوط في سنن أبي داود (5/454) وفي سنن ابن ماجه (3/452).

[5] انظر: معالم السنن للخطابي (3/362).

[6] انظر: الأوسط من السنن والإجماع والاختلاف لابن المنذر (7/274).

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه