شقراوات يتحدثن العربية!

 

باتت اللغة العربية هي إحدى اللغات التي يزداد حجم التعامل بها الآن في الشارع الألماني، ذلك بأن فتح أبواب الهجرة أمام اللاجئين السوريين سنة 2015 أحدث زخما كبيرا في مختلف جوانب الحياة هنا، لاسيما التجاري منها، ففي كثير من الشوارع التي يقطنها العرب الآن والتي يمارسون فيها أنشطتهم التجارية، أصبحت المقاهي والمطاعم وصالونات الحلاقة والصيدليات تحمل أسماء عربية.

إن موضة الإقبال على تعلم اللغة العربية بين الألمان سبقت تاريخ الهجرة هذا مرتين، فبعد أحداث 11 سبتمبر سنة 2001 سرت موضة بين طلاب الجامعات على تعلم اللغة العربية لمحاولة فهم الدين والثقافة التي تم الزج بها على خلفية هذا الحدث الذي هز العالم.  

أما التاريخ الثاني فكان بعد اندلاع الثورات العربية، وما أعقبها من تأثيرات وانطباعات إيجابية رسخت في ذهن الشباب الألماني، فأعربوا عن إعجابهم بالثورة المصرية، ومن ثم عادت موضة الإقبال على تعلم العربية.

ممنوع على الشقراوات زيارة مصر:

أتذكر في ذلك الوقت أن سألتني طالبة ألمانية النصيحة، كانت قد أنهت دراسة الفلسفة وتستعد للذهاب إلى القاهرة لدراسة اللغة العربية، شجعتها على هذا القرار، لكنها عادت مترددة وقالت: إن الكثيرين نصحوها بعكس ذلك، فمصر تنتشر بها ظاهرة التحرش الجنسي، وهي لن تكون في أمان، وحتى تكون صادقة فتحت لي كتابًا أحضرته معها وأشارت إلى المقطع الذي يحذر الشقراوات من الذهاب إلى مصر بشكل فردي بسبب التحرش، وبعد عدة أشهر علمت أنها ذهبت إلى إسرائيل لتتعلم العربية هناك!

أما صوفيا فكانت طالبة دكتوراه ذهبت إلى العراق مع بعثة ألمانية للتنقيب عن الآثار، وعندما عادت أبدت اهتماما كبيرا بتعلم العربية، وفضلت الانضمام إلى كورسات اللغة التي تنظمها جامعة ميونيخ بشكل دوري، وبعد وقت قصير بدأت تتحدث العربية الفصحى بشكل مدهش، وهي الآن على وشك السفر إلى السودان في مهمة تنقيب جديدة.

الممثلة الأمريكية جينفر غروات ظهرت على مواقع التواصل الاجتماعي وهي تتلو آيات من القرآن الكريم بصوت عذب، وبدون أخطاء، وحبها للموسيقي العربية شجعها على تعلم العربية التي درستها في المغرب بسهولة ويسر. 

عن سر هؤلاء الذين يدخلون في تحدٍ كبير مع النفس لتعلم اللغات الصعبة كالعربية، أجابني أستاذ في معرض للخط العربي في ميونيخ، عندما لاحظت إقبالا على المعرض من قبل الألمان رغم ظاهرة الإسلاموفوبيا بقوله: “إن بوابة فهم الدين والثقافة العربية هي الفنون، فمعرض الخط العربي وأشكال الكتابة والزخارف الفنية تثير إعجاب رواد المعرض، ولاعجب أن بعضهم أعرب عن رغبته في تعلم العربية بسبب حبه لهذا الفن “

اللغة دائما تتأثر بالحركة التجارية فقد ساهمت حركة التجارة  في نقل الكثير من مفردات اللغة  العربية إلى أفواه الألمان، فالجميع هنا يعرفون  كلمات مثل طاجن، خبز، فلافل، كباب،  طحينه ،  وحلال،  وغيرها من كلمات عديدة انتقلت للغة الألمانية، أيضا ساهمت السياحة العربية الخليجية الثرية إلى ألمانيا  في إجبار الألمان على الاستعانة بموظفين  يتحدثون العربية، وطباعة الكثير من المطبوعات التي تحمل إرشادات باللغة العربية سواء في المتاجر الكبري، أو الفنادق، وهو نفس ما فعلته أيضا السياحة العلاجية، بل أكثر من ذلك نجد أن الكثير من عيادات الأطباء الألمان الكبار يضعون نسخة تعريفية باللغة العربية على صفحاتهم على الإنترنت .

قبل عدة سنوات ظهر هنا كتاب ألماني إسمه” من الجبر إلى السكر” لمؤلفه اندرياس اونجر يتحدث.. فيه عن تأثير وتاريخ العربية في اللغة الألمانية، وجاء بالكتاب الكلمات العربية التي يستخدمها الألمان في لغتهم مثل السكر، الكحول، الشربات الطاسة، الكنبة وغيرها، منبها إلى أن الأعداد تنطق في اللغة الألمانية على غرار العربية، وهي الوحيدة في كل اللغات الأوربية التي تنطق كذلك، مثلا ينطق العدد 21 بالألمانية واحد وعشرون، لكن بالإنجليزية وباقي اللغات الأوروبية تنطقه عشرين وواحد.

في صفوف طويلة

في سنة 2013 زرت معرضا للخزف في مدينة “توبنجن” لفنانة ألمانية اسمها “هينريتا لامب” تكتب على منقوشاتها الخزفية عبارات باللغة العربية منها عبارات دينية، وحكم، وأقوال مأثورة عربية مثل “الله جل جلاله “أو “أعوذ بالله من الشيطان الرجيم”، “ورب اشرح لي صدري”، وكلمات أخري متناثرة مثل “الحب” أو ” الصدق” أو ” الأمانة. وهي تقوم بترجمة كل عبارة وتضعها على ورقة داخل الإناء أو الكوب الذي يحمل معناها، مما يبدل فضول الزبائن، ويجعلهم قادرين على فهم المعني المكتوب. شاهدت الزوار وهم يقفون في صفوف طويلة يتأملون ويتفحصون العبارات العربية المنقوشة على الأكواب والأطباق الخزفية بكل إعجاب، سألتها عن إحدى العبارات المكتوبة وكانت “اصرف ما في الجيب.. يأتيك ما في الغيب” عما إذا كانت تعرف معناها؟ قالت: “بالطبع اعرف المعني وإلا ما كنت كتبتها، فأنا تعلمت العربية لمدة عشر سنوات، حتى أستطيع إجادة اللغة العربية التي تأثرت بها وأحببتها”.

من أشهر من تأثر باللغة العربية في ألمانيا هو الفيلسوف والشاعر الألماني العظيم”يوهان فولفغانغ فون غوته” الذي تعلم العربية في أواخر القرن الثامن عشر، وعندما سألوه عن ذلك قال: حتى أتجاوز العائق اللغوي وأقترب من روح ما أقرأ. لقد تعلم أيضا النحو والصرف، وقد بلغ افتتانه بالخط العربي إلى أنه راح يحاكيه في الشكل بكل دقة حتى إنه توجد مخطوطات وفيها محاولاته تقليد الخط العربي محفوظة في المكتبات الألمانية، وفي ديوانه الذي أطلق عليه اسم الديوان والذي صدرت طبعته الأولى عام 1819. كانت أولى قصائده بعنوان “هجرة” التي كتبها بنطقها العربي.

لا عجب إذن أن تقابل فاتنات تأثرن بالعربية، وتحدثن بها، فإيقاع اللغة إذا تمكن من شعور المحب لها، أصبح الأمر سهلا ويسيرا في تعلمها.

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه