شفرة العقل البشري

هاني بشـر*

جلس المديرون في إحدى الشركات خلف طاولة اجتماعات كبيرة وأمام كل منهم مجموعة من مكعبات الأطفال  من إنتاج شركة ليغو الدنماركية الشهيرة بما لا يدع مجالا للشك أنها ألعاب حقيقية. بدا الأمر غريبا لأن شركتهم ليس لها علاقة بأي من منتجات الألعاب. وانهمك الحاضرون في الحديث وفك وتركيب هذه المكعبات وتكوين أشكال مختلفة بتركيز شديد لعدة ساعات.

يتكرر هذا الأمر في عدة مؤسسات مما يوحي لأي شخص بأن هؤلاء في فترة استراحة من عناء العمل، وقرروا الترفيه بطريقة جديدة. والحقيقة أنهم كانوا غارقين في عمل جديد ابتكرته شركة ليغو للأطفال لحل مشاكل الشركات وتفعيل أساليب العصف الذهني على المستوى الفردي والجماعي.
تعتمد هذه الطريقة على نتائج بحث أجراه  اثنين من الأكاديميين في سويسرا بالتعاون مع مدير شركة ليغو عام 1996 ووجدوا أن تشجيع البالغين على تقليد الأطفال في الاستفادة من تركيب هذه المكعبات لبناء أحلامهم يؤدي لتنظيم العقل، ليس لحل مشكلات العمل فقط ولكن للتخطيط الاستراتيجي أيضا وإبراز الأفكار الإبداعية لدى العاملين. أسس الثلاثة شركة جديدة لهذا الغرض فقط  لترعى ما اسموه “ألعاب ليغو الجادة” حيث انضوت بعد ذلك تحت مظلة شركة ليغو الكبيرة عام 2004. وفي عام 2010 بدأت في توسيع نشاطها ولديها الآن مكعبات تبيعها مخصصة لهذا الغرض وهي تشبه إلى حد كبير مكعبات الأطفال. وتعتمد “ألعاب ليغو الجادة” على تنظيم ورش عمل وإعطاء دورات لتخريج مدربين متخصصين ليقوموا بالإشراف على هذا النشاط في الشركات والمؤسسات المختلفة.
هذه الطريقة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة لاستخراج الطاقة الفكرية والإبداعية الهائلة في العقل البشري. لكنها إحدى الخطوات الهامة في هذا المجال عن طريق تحويل الأفكار ليس لكلمات مكتوبة، كما تعود البشر منذ اكتشاف الكتابة والتدوين، ولكن لأشكال ثلاثية الأبعاد يمكن التحكم اليدوي فيها وبالتالي تطويرها وتحسينها وتوليد أفكار جديدة منها.
لم تنتشر مثل هذه الأساليب في العالم العربي بعد؛ لكنها قد تعد امتدادا لوسائل مشابهة ذاع صيتها في بعض الأوساط  كطريقة الخرائط الذهنية والتي تعتمد على تحويل الأفكار إلى شكل أشبه ما يكون بالشجرة المرسومة، بحيث توضع الفكرة الرئيسية في الوسط ويتفرع منها أفكار فرعية. وتهدف هذه الطريقة إلى محاكاة فطرة التفكير في الدماغ. فشكل الخلية العصبية في الدماغ يتشابه إلى حد بعيد مع أشكال هذه الخرائط، وإسقاط المعلومات عليها باستخدام الألوان يجعل عمليه تذكرها أسهل بكثير من مجرد تدوين الأفكار على هيئة سطور في ورقة. وذلك لأن المخ قادر على تخزين الصور بشكل أسهل وأسرع من الكلمات. وهي طريقة فعالة جدا في الحفظ، لا سيما عند الطلاب الذين يدرسون مواد نظرية فيلجأون لإنشاء خرائط تمثل الموضوعات وملخصات على شكل أشجار يتفرع من الموضوع الرئيسي موضوعات فرعية وتمييز كل فرع بلون مختلف. ومع تكرار عرض هذه الخرائط تنطبع بسهولة في الذاكرة ويصبح استرجاعها أمرا سهلا جدا. وتذكر تفاصيل الخرائط ليس هدفا في حد ذاته ولكنه مفتاح  لتذكر النصوص الأصلية التي تلخصها هذه الخرائط بما تحويه من فروع وموضوعات.
يفيد نموذج الخرائط الذهنية أيضا في عملية تدوين المحاضرات والندوات. فبدلا من كتابة عناصرها بشكل تقليدي، يتم رسم الفكرة الرئيسية في الوسط وتفريع الموضوعات المنبثقة منها مع تلخيص لأهم المحاور وأهم العناصر في هذه الفروع. ويستخدم كثير من الباحثين والكتاب هذه الطريقة لتطوير أفكارهم البحثية وابتكار أفكار جديدة. فوضع الفكرة الرئيسية موضع القلب من الجسد ومد شرايين الأفكار الفرعية منها يساعد على تحويل الأفكار إلى مواد بصرية لا تتفاعل في الدماغ فقط ولكن باستخدام حاسة البصر أيضا مما يزيد القدرة الاستنتاجية ومن ثم تعزيز فرص الابتكار والإبداع.
في المجال الأكاديمي يطلب من باحثي الدراسات العليا عمل عرض ونقاش لأهم ما تناولته الأبحاث الأكاديمية في موضوع البحث قبل استخلاص نتائج هذه النقاشات والوصول النهائي إلى نتائج جديدة. وقد أخبرني أحد الباحثين في جامعة هاريت وات البريطانية أنه استخدم تقنية الخرائط الذهنية لتوضيح عرض الأبحاث السابقة في بحثه وقوبل بحثه بترحاب كبير من قبل الأساتذة، رغم أنها طريقة غير تقليدية، وصوروا خرائطه تلك ووضعوها على الحائط في الجامعة.
إن تطور العلوم والفنون والآداب المختلفة في العالم ليس مرتبطا فقط بالإمكانيات المادية ولكن تلعب المنهجية العلمية للبحث والتفكير دورا مهما فيه. وهي منهجية تتطور هي الأخرى مع مرور الوقت. فالخرائط الذهنية مثلا تطورت من نموذج الرسم اليدوي بالألوان على الورق الأبيض إلى برامج على الكومبيوتر تسمح للمستخدم بأن يضيف إليها صورا وفيديوهات. ويمكن أن تُستخدم أيضا في العروض المرئية للمحاضرات وأثناء التدريس. وقد تطورت هذه البرامج بعد ذلك لتصبح الخرائط الذهنية ثلاثية الأبعاد، بطريقة تسمح للمستخدم بتحويل أفكاره وتطويرها عن طريق تحويلها لخرائط مجسمة ذات أبعاد ثلاثية لتحقيق المزيد من الخيال الذي يولد أفكارا وابتكارات جديدة. ثم وصلنا أخيرا لطريقة ألعاب الليغو الملموسة.
كل هذه المحاولات تحاول فك شفرة العقل البشري الرهيبة وتوفير مناخ صحي لاستخراج طاقته الكامنة. يقول أليكسيس كاريل في كتابه “الإنسان ذلك المجهول” إن حدود العقل مفتوحة وتتعرض لشعور الهجوم المحيط العقلي والروحي وهذا يؤدي إما لنمو العقل بطريقة طبيعية أو ناقصة تبعا لنوع الهجوم الذي يتعرض له. وهو هنا بعكس الجسم البشري الذي يقاوم العالم الكوني بقوة أكثر لأنه محروس ضد غارات أعدائه الطبيعية والكيميائية بواسطة الجلد والأغشية المخاطية التي تحيط الجهازين التنفسي والهضمي.
أعرف أن هناك جهودا فردية للتحصيل العلمي والتفكير الاستراتيجي باستخدام هذه الأساليب. لكن هناك أهمية لتعميمها لأنها طرق مهمة لمواكبة العالم الذي نعيش فيه. وقد وجدت جهدا مشكورا في تطبيق هذه الأساليب على القرآن الكريم مثلا.  وهناك خريطة ذهنية لسور القرآن الكريم المختلفة تساعد القارئ أو الباحث أو الراغب في الحفظ على ربط الموضوعات ببعضها البعض مما يساعد على التفكر والاستيعاب

___________________

*كاتب مصري مقيم في بريطانيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه