سمير العركي يكتب: هجمات باريس حوار متوقع أم صدام ممتد ؟!

سمير العركي*

 
كما كانت هجمات الحادي عشر من سبتمبر معلماً فارقاً وبارزاً بين الشرق والغرب ، ومازلنا حتى الآن نعاني من تبعاته وآثاره ، فإن هجمات باريس الدامية ستمثل هى الأخرى محطة مهمة في طريق علاقات مأزومة ومتوترة وغير قادرة على وضع أسس التعايش الإنساني المتجاوز للاختلاف العقدى والتباين الفكري ، واختلاف منظومة القيم والأخلاق .
القاعدة وداعش

لكن الفارق هنا أن تنظيم القاعدة الذي نسب إليه تفجير برجي التجارة في نيويورك كان معروفاً ومعلوماً بشخوصه وأفكاره ، عكس تنظيم الدولة الإسلامية أو ما يعرف إعلامياً باسم ” داعش ” فنحن أمام تنظيم هلامي برز فجأة ، وتمدد في فترة وجيزة وباتت لديه القدرة لشن الهجمات في عدة أماكن من العالم دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية من اكتشافه أو الحد من خطورته !! ما يعكس قدرة هائلة على التمويل والتخطيط والدعم اللوجيستي، إضافة إلى قدرته على السيطرة على مساحات مهمة في الفضاء الإلكتروني مكنته من تأسيس منابر إعلامية متقدمة وشن هجمات الكترونية ضد مناوئيه ، هذه القدرات الهائلة بشريا ومادياً أفضت إلى حالة من التشكيك الحذر حول وجود التنظيم من أساسه ، أو حول الاختراقات ” المحتملة ” من أجهزة استخبارات عالمية تمكنت من توظيف التنظيم لإحداث حالة من الفوضى عمقت الصراع بين الشرق والغرب في وقت كانت الشعوب العربية قاب قوسين أو أدنى من جني نتائج ثوراتها ” السلمية ” وتحقيق الثلاثية المنشودة ( الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ) .
ومع وقع هجمات باريس كان ثمة سؤال يفرض نفسه هل ستعجل دموية الهجمات بحوار لازم وضروري ؟ أم تزيد من حدة الصدام إرواء لغليل النفس وتحقيقاً للثأر وفرضاً لمخططات جاهزة كانت تنتهز الفرصة المواتية  لتخرج إلى حيز الوجود ؟
فتقاطر البوارج الحربية والطائرات الغربية على المنطقة يرجح فرضية الصدام على غرار ما حدث عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، وضعاً في الاعتبار أن باريس ليست واشنطن صاحبة المقدرة على حشد الجيوش وتجييش الحلفاء خلفها ، لكن ما سمعناه خلال الأيام القليلة الماضية من تصريحات في العواصم الغربية المختلفة يؤكد أن المنطقة قد تشهد أياماً صعبة تتوارى فيها قضية الديمقراطية والحرية خلف لافتة الحرب على الإرهاب ، ولا يعرف أحد على وجه التحديد كيف ستنتهي تلك الحرب عسكرياً وجغرافياً ، إذ تشير جميع المعطيات أن الشكل الجغرافي المعروف للمنطقة منذ سايكس – بيكو في طريقه للتغير لصالح أشكال ونتوءات جديدة طائفية وعرقية ، ولكن تبقى العديد من الملاحظات الهامة التي ينبغي ذكرها هنا :
أولها : اختلاف أوضاع المنطقة الآن عما كانت عليه عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر ، فالمنطقة في حالة سيولة هائلة منذ عام 2011 ، ورغم الهجمة الشرسة للثورات المضادة في كل من مصر وتونس وليبيا ، إلا أن الثورات الأصلية للشعوب لم ترفع راية الاستسلام تزامناً مع إخفاقات كبيرة لقوى الثورة المضادة في هذه البلدان، وما قوى الأمل لدى هذه الشعوب في استعادة وهج عام 2011 مرة أخرى ، وهو ما يعني أن هذه القوات الغازية هذه المرة لن تجد مجتمعات خاملة كالتي وجدتها عند احتلال العراق عام 2003 بل ستجد قسماً كبيراً منها في حالة ثورة وغليان ..
الأمر الثاني الذي لم يتم التوقف عنده ، وهو أنه بالنظر إلى جنسيات من تم الإعلان عن ضلوعهم في هجمات باريس نجد أنهم ممن ولدوا ونشأوا وتربوا في أوروبا أي في قلب الحداثة وما بعدها ، فهم أبناء ورعايا هذه المجتمعات العلمانية ، وما الزج باسم سوريا في الأزمة إلا محاولة للهروب من تبعات أسئلة مهمة وضرورية عن الأسباب التي دفعت هؤلاء الشباب إلى القيام بهذه الهجمات الدموية ؟ هل هو الشعور بالتهميش والإقصاء ؟ أم أنه فشل الحضارة الغربية في استيعاب المسلمين الذين ولدوا ونشأوا بين أحضانها ، ومحاولتها الحثيثة فرض نموذج قيمي وأخلاقي أحادي ، وعدم الاعتراف بالتعددية الثقافية والدينية ( لعلنا نتذكر هنا حرب المآذن في سويسرا ، وغارات الحجاب في فرنسا ، وفرز اللاجئين السوريين مؤخراً حسب الديانة والهوية العقدية ) كل هذا يعني أن شن الغارة الغربية الجديدة على منطقة الشرق الأوسط قد تدفع أوروبا كلفتها من استقرارها وأمنها الاجتماعي .
الأمر الثالث والمهم أن الغرب ساهم بفعالية في تسييد النموذج ” الداعشي ” على حساب النموذج “المعتدل ” بتآمره على ثورات الربيع العربي ، وإفساده النموذج الديمقراطي الذي كان في طور التشكل ، فلولا الضوء الأخضر الممنوح غربياً لعسكر مصر ما أمكنهم الإقدام على الانقلاب على الرئيس المنتخب ، ولولا التدخل في ليبيا عبر أشكال متعددة ما أمكن لـ ” حفتر ” الاستمرار كل هذه المدة في تمرده ، فقد كانت ثورات الربيع العربي فرصة مثالية لإثبات إمكانية التغيير السلمي حتى إن كثيرين اعتبروها إعلاناً صريحاً بسقوط نموذج ” القاعدة ” إلا أن دعم الغرب للثورات المضادة لم يعد الاعتبار لـ ” القاعدة ” وفقط بل وأنتج لنا ” داعش ” النموذج الأكثر دموية والعابر للقارات ، والذي تمكن في فترة وجيزة من استقطاب رعايا الدول الأوروبية إلى صفوفه وبات يمثل لهم حاضنة فكرية ومكانية

الاختلاف هذه المرة.
مما سبق يتضح لنا أن الغارة الغربية على منطقتنا هذه المرة لن تكون كمثيلتها أواخر القرن التاسع عشر ، إذ دارت رحاها آنذاك على أرضنا ووسط ملاعبنا ، وسددنا فاتورتها حينها من استقلالنا ومشروعنا النهضوي ومازلنا نعاني منها حتى الآن ، أما اليوم فالأمر جد مختلف ، والمجتمعات على اختلاف مذاهبها وأجناسها هى التى تسدد فاتورة الجنون السياسي ، وهو ما يستدعي حواراً بين العقلاء يكفكف غلواء التعصب

____________________________

*كاتب مصري

      

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه