سليم عزوز يكتب: عندما “يفعص” السيسي الأفكار

سليم عـزوز*
إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة، وذلك على العكس من عبد الفتاح السيسي الذي هو إذا أفلس فتش في دفاتر غيره، وإن كان لا يستدعي من هذه الدفاتر الأفكار بحالتها لتنقذه من فلسه، فهو يقوم “بتفعيصها”، وهو اصطلاح مشتق من “تفعيص” ثمار الطماطم!
في أستوديو “الجزيرة مباشر”، قلت إن السيسي بمشروع المليون ونصف مليون فدان، الذي أطلقه يوم الأربعاء الماضي، إنما هو “يفعص” فكرة عالم الجيولوجيا الدكتور “خالد عودة”، وهو ابن الشهيد “عبد القادر عودة”، القيادي الإخواني الذي أعدمه حكم العسكر في مصر، وقد كان “عودة” الابن عضواً في جماعة الإخوان في مجلس الشورى بعد الثورة، وأعلن عن اكتشافه “خزاناً” للمياه الجوفية يكفي لاستصلاح 3.7 مليون فدان بالصحراء المصرية الغربية.
خالد عودة وباسم عودة
معلوماتي القديمة، أن العالم المعروف “خالد عودة” جرى اعتقاله بعد الانقلاب العسكري، ولا أعرف مصير الرجل، هل تم الإفراج عنه، أم لا يزال مسجوناً انتقاماً من كونه عالماً وينتمي للثورة وللإخوان، تماماً كما حدث مع أنجح وزير للتموين عرفته مصر منذ إنشاء هذه الوزارة، وهو “باسم عودة” الذي تم اعتقاله انتقاماً منه لنجاحه ولأن العسكر عرضوا عليه أن يستمر وزيراً في حكمهم فرفض!.
لم أتمكن بطبيعة الحال، من شرح مفهوم “التفعيص”، في برنامج “الجزيرة مباشر”، فالوقت يداهمنا يا زلمة، وهو دائما يداهمنا، ولم يحدث أن توقف الوقت عن مداهمة الضيوف، إلا في برنامج “في العمق”، الذي تقدمه “الجزيرة الأم”، ومع هذا يأخذ البعض علي أنني في مشاركاتي التلفزيونية أتكلم سريعاً.
في الصحافة عرفنا اصطلاح “التفعيص”، عندما ينشر في الصحف خبراً، أو معلومات في قضية تحتاج لإخضاعها للتحقيق الصحفي، وقد يرسم صحفي خطته لذلك، فالأمر مثلاً يحتاج للوقوف على معلومات أكثر من مصلحة الأمن العام، وللحصول عليها لابد من موافقة وزارة الداخلية، وهي موافقة تحتاج إلى خطاب من الصحيفة التي يعمل بها المحقق الصحفي، وهناك دراسة لمركز البحوث الاجتماعية والجنائية، لابد من الحصول عليها، ولابد كذلك من مراجعة مركز المعلومات الصحفية للاطلاع على نماذج سابقة منشورة عن نفس الموضوع!
وبعد أن ينتهي من وضع خطة التحقيق، يفاجأ بصحيفة أخرى قامت بنشر موضوعها في العدد الصادر في اليوم التالي. لأن هناك من تعامل بمنطق من “سبق أكل النبق”، فحقق الموضوع على طريقة استطلاعات الرأي، حيث رفع سماعة الهاتف واتصل بالخبراء وطرح سؤاله وقام بتدوين الإجابات التي أملوها عليه، وانتهى سريعاً، ربما في نفس الوقت الذي استغرقه صاحبنا وهو يحتسي فنجان القهوة، متأملا!.
في هذه الحالة، فإن صاحب الاستطلاع التليفوني، يكون قد “فعص” فكرة التحقيق، فلا هو أنجزه بدقة ولا ترك غيره يفعل، وهو بالتالي قطع الطريق على التحقيق الجاد!
أهل الغفلة
“السيسي” يقوم في كل أحواله “بتفعيص” الأفكار، تماماً كما فعل مع مشروع قناة السويس، وهو مشروع قديم ومتكامل، وتبناه البرنامج الرئاسي للدكتور محمد مرسي، لكن السيسي اختزله في تفريعة، مكنته من ركوب “يخت المحروسة” الخاص بالملك فاروق، ودغدغت العواطف الجياشة لأنصاره من غير أولى الإربة، ومن “أهل الغفلة”، وقد وعدهم بالمن والسلوى بمجرد الانتهاء منه، ولأنه رئيس يحكم بنظرية “اليومية”، المعتمدة لدى عمال التراحيل، فقد ظن أن السنة التي وعد بانتهاء المشروع خلالها هي بعيدة، وافتتح التفريعة التي وصفها إعلامه بأنها قناة سويس جديدة، وكل ما قلناه ثبت صحته، فأزمة التجارة العالمية لن تزيد في حجم إيرادات القناة، التي ليست بحاجة إلى تفريعة جديدة، فإذا بما حدث أكثر من توقعاتنا، فإيرادات القناة خلال الشهور التسعة الأخيرة هي أقل من معدلاتها في كل عام!
ولأن السيسي مأزوم، بسبب الفشل، وبسبب تكشف دوره التآمري في بناء سد النهضة، وعدم الحفاظ على حصة مصر التاريخية من نهر النيل، فقد أخذنا بعيداً في اتجاه مشروع قومي جديد، حيث يستلهم أفكار العالم الإخواني “خالد عودة”، الذي انتزع منه العسكر والده صغيراً، وأكملوا مهمتهم في انتزاع أفكاره وهو عالم كبير، ولكن وفق نظرية “التفعيص”.
مشروع “خالد عودة” يتلخص في اكتشافه مخزوناً للمياه الجوفية في المنطقة الحدودية بين مصر وليبيا، وهذا المخزون ناتج عن نهر قديم في الصحراء كون دلتا كبيرة صالحة للاستصلاح الزراعي، وهي تكفي لزراعة ضعف المساحة التي أعلنها السيسي، والتي بدأها بعشرة آلاف فدان فقط، لم يحدد لها فترة زمنية للبدء والانتهاء، فكل أفكاره المسروقة، يبدد قيمتها بارتجاليته وتفعيصها.
التشكيك في مشروع عودة
ومهما يكن، فإن ما قاله “عودة”، لم يكن يجوز التسليم به بدون دراسات، لاسيما وأن هناك من شكك في مشروعه مثل مديرة معهد أبحاث المياه الجوفية الدكتورة “ناهد العربي”، التي طالبت بإخضاع المشروع للدراسات العلمية لتحديد كميات السحب الآمنة قبل تحديد المساحات التي يمكن زراعتها في هذه المناطق!
وهو كلام له وجاهته، لاسيما وأن المعلوم أن المياه الجوفية لها منسوب، وليست معيناً لا ينضب، وللدكتور فرج فودة، دراسة مهمة حول اقتصاديات مياه الري حصل بها على درجة الدكتوراه من كلية الزراعة جامعة عين شمس، واللافت أن رسالة الدكتوراه كانت ترد على رسالته للماجستير.
فالدراسة التي حصل بها على الماجستير، كانت تقوم على فكرة الاستصلاح الزراعي  بأعداد ضخمة من الأراضي بعيداً عن الوادي، واعتماداً على المياه الجوفية، لكنه عاد في رسالة الدكتوراه، لينسف ما انتهى إليه فالمياه الجوفية لها منسوب حتماً سينتهي إن تجاوزت عملية السحب الآمنة.
القذافي والنهر العظيم
وقد كانت هناك تجربة قام بها القذافي وطنطن لها الإعلام، وهي النهر الصناعي العظيم الذي شقه في “الجماهيرية العظمى”، وسط “زفة إعلامية” لهذا الاختراع، والذي يعتمد في الأصل على مخزون المياه الجوفية، وكان الزعيم الليبي ينفق على الدعاية أكثر مما أنفق على الحفر، باعتباره صاحب المشروع، ومع ذلك فإن أصواتا خافتة شككت فيه. وانتهي المشروع رغم الصخب الإعلامي إلى لا شيء، فقد كان بمثابة سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء!
ومن الواضح أننا أمام قذافي جديد، فقد قام بالسطو على مشروع “خالد عودة”، وقام “بتفعيصه”، ولم يعرضه للمناقشة المتأنية، فالرجل المأزوم يبحث عن أمل جديد خادع، وكل ما يعنيه هي “اللقطة”، وليس مشغولاً إن انتهت هذه “اللقطة” إلى فضيحة، تضحك الثكالى، كما جرى في واقعة “عم سيد” الفلاح الذي استضاف السيسي في منزله لحظة إعلانه عن المشروع، ليصرح “عم سيد” بنفسه وعقب اللقاء مباشرة، بأنه ليس فلاحاً، وانه موجه في وزارة التعليم، وأنه البيت ليس ملكاً له وأن الحيوانات التي ظهرت فيه ليست ملكه، وأنه لا أحد يسكن في المنازل التي ظهرت في صورة الزيارة لتؤكد أن السيسي التقي فلاحاً في قريته!
“اللقطة” هي ما تعني السيسي، الذي يدير الدولة المصرية كممثل هاو، والذي يريد أن يدفع الناس للقفز على واقعهم الأليم بالتحليق في الخيال، فاته أن المصريين فقدوا بسبب ضنك الحياة على يديه حتى القدرة على التحليق ولو هروباً.
فمتى يتوقف السيسي عن “التفعيص”؟!.. لقد هرمنا!

__________________________

* صحفي مصري 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه