زيارة أردوغان لواشنطن: مالها وماعليها

يصبح من المبكر الآن الحديث عن أن العلاقات الأمريكية التركية اجتازت مرحلة الخطورة التي مرت بها خلال الفترة الماضية

 

الزيارة الأخيرة التي قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى واشنطن، تلبية لدعوة نظيره الأمريكي دونالد ترامب، تعد واحدة من أهم المحطات المؤثرة في مسار العلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وتركيا، تلك العلاقات التي تعاني منذ فترة ليست بالقصيرة من تجاذبات وتوترات كادت أن تصل بها في كثير من الأحيان إلى حد القطيعة بل والتصادم المباشر على الأراضي السورية تحديدا، ومع ذلك فإن هناك من اعتبرها مجرد زيارة بروتوكولية، لشكر الرئيس التركي على ما قدمته بلاده من مساعدة في الحرب على الإرهاب، ما أدى إلى القضاء على زعيم تنظيم داعش، وأنها لم تحرز أي تقدم في العلاقات المتوترة بين البلدين، ولم تتوصل إلى حلول فعلية للمشاكل التي تعرقل عودة تلك العلاقات إلى سابق عهدها.

تضارب القرارات الامريكية وفقدان الثقة

إعلان الرئيس أردوغان نفسه عقب عودته من الزيارة عن وجود بعض المسائل التي لاتزال عالقة بين أنقرة وواشنطن، وأن العلاقات بينهما تمر حاليا بمرحلة صعبة، يشير إلى أمرين، أولهما: خطأ الرهان على أن تلك الزيارة ستعيد علاقات البلدين إلى سابق عهدها، في ظل الثقة المفقودة بينهما، والتي تحتاج إعادتها إلى وقت طويل وظروف مناسبة، فيما يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن ذلك وسط التطورات الاقليمية الراهنة، وفي وجود إدارة ترامب، التي تعاني من تضارب في قراراتها، وانقسام حاد بين أركانها، ما يجعل من الصعب وضع استراتيجية واضحة للتعامل معها، خاصة مع انتهاجها سياسة العقاب، التي تستهدف حلفاءها قبل أعدائها.  

ثانيهما: أهمية التركيز حاليا على كيفية إدارة هذه المرحلة بشكل يخدم مصالح البلدين، وهو الأمر الذي سعى الأمريكيون لتحقيقه بصورة عملية، حيث ضمت طاولة المفاوضات إلى جانب أردوغان وترامب، عددا من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي عن الحزب الجمهوري، الذين يمثلون نقطة انطلاق الخلافات الأساسية التي تعرقل مسار العلاقات بين البلدين، وهو الأمر الذي يعد أحد أبرز إيجابيات الزيارة.

تأكيد الأهمية الاستراتيجية للتعاون المشترك

ورغم استمرار تباين وجهات النظر في عدد من القضايا والمسائل العالقة التي تم طرحها للنقاش، فإنه يمكن رصد العديد من الإيجابيات التي أسفرت عنها تلك الزيارة، وذلك على النحو التالي:

1- حرارة الاستقبال التي بدت ظاهرة في حرص الرئيس الأمريكي على منحه مظهرا احتفاليا عائليا، وهو ما بدا نوعا من الاعتذار غير المعلن عن الرسالة التي وجهها للرئيس أردوغان قبل البدء في مراحل عملية “نبع السلام” تلك الرسالة التي قامت إدارته بتسريبها، واعتبرتها أنقـرة حينذاك مُهينة وخارجة عن الأصول السياسية والأعراف الدبلوماسية، وأعلن أردوغان أن رده عليها سيأتي في الوقت المناسب.

2- إصرار ترمب على تسليط الضوء على الجانب الاقتصادي في العلاقات بين البلدين، وحرصه على الحديث عن أهمية زيادة حجم التعاون التجاري بينهما ليصل إلى 100 مليار دولار، وذلك وفق ما سبق وأن اقترحه الأتراك أنفسهم، يهدف ليس فقط إلى محاولة إذابة كتلة الجليد التي تعيق تنشيط العلاقات الثنائية، بل أيضا إلى استمرار التحالف الاستراتيجي بينهما، وضمان عدم قيام أنقرة باتخاذ خطوات جدية في مسألة تغيير تحالفاتها، تلك الخطوات التي هدد الرئيس أردوغان بها مرارا وتكرارا نتيجة تصاعد حدة خلافات بلاده مع الإدارة الامريكية.

3- حديث ترمب عن أهمية التعاون بين واشنطن وأنقرة في الحرب على الإرهاب، وخصوصا تنظيم داعش، مثمنا الدور التركي، ومانحا أردوغان الفرصة كاملة لشرح ما قامت به بلاده في هذا المجال، والذي أسفر عن اعتقال أكثر من ألفين من قيادات التنظيم وعناصره إلى جانب القضاء على زعيمه أبو بكر البغدادي، جاء بهدف استمالة تركيا، وتأكيد أهميتها بالنسبة لواشنطن، بهدف الحد من تقاربها مع موسكو.

4- نجحت الزيارة في نزع فتيل أزمة حادة كادت أن تنشب بين الدولتين على الأراضي السورية، وفي ضمان بقاء دعم البيت الأبيض لعملية نبع السلام واستمرارها حتى تحقق كافة أهدافها التي انطلقت من أجلها. وفي تجنب تركيا فرض عقوبات اقتصادية عليها، كان من شأن حدوثها زيادة حدة الركود الاقتصادي الذي تعاني منه المنطقة بكاملها وليس تركيا بمفردها.

5- اعتماد الطرفين سياسة التباحث، وترجيحهما لغة الحـوار طريقا يمكن من خلاله التوصل إلى توافقات، من شأنه أن يؤدي إلى إعادة بناء التحالف الاستراتيجي بينهما على أسس أكثر منطقية وواقعية، مستندا إلى مصالح مشتركة تعزز من دور أنقرة في المنطقة، ومكانتها في الاستراتيجية الأمريكية.

قضايا لاتزال عالقة بين أنقرة وواشنطن

ومن منطلق تأسيس علاقات تستند إلى تلك المنهجية، طٌرحت على طاولة المباحثات الكثير من الملفات الهامة، التي نوقشت بصراحة ووضوح، تصدرها ملف الدعم غير المحدود الذي يقدمه البنتاغون لتنظيم “قسد”، المظلة التي تنضوي تحتها عناصر تنظيمي وحدات حماية الشعب وحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه الولايات المتحدة الامريكية تنظيما إرهابيا، وتقدم لعناصره كافة أنواع الدعم! إلى جانب مسألة محاولات واشنطن الالتفاف حول بنود الاتفاقية الموقعة بين الجانبين، والخاصة بسحب الأسلحة الثقيلة من العناصر المسلحة، وإنشاء المنطقة الآمنة التي أطلقت تركيا عمليتها العسكرية من أجلها، بهدف تنظيف الشمال السوري من العناصر المسلحة المدعومة أمريكيا، وتهيئتها لإعادة آلاف اللاجئين السوريين إلى بلادهم.

وفي مواجهة رفض واشنطن وقف دعمها لتلك العناصر، وتباطؤها في إخراجهم من المنطقة، أكدت تركيا نيتها المضي قدما في تنفيذ إنشاء المنطقة الآمنة، لتسكين مليونين من اللاجئين السوريين بها، وذلك في شرق الفرات وفي الجنوب بمناطق الرقة ودير الزور، مطالبة بأهمية التفريق بين العناصر المسلحة والمدنيين الاكراد. 

كما تم طرح ملف إيواء واشنطن واحتضانها لعدد من القيادات البارزة في تنظيم فتح الله غولن المتهم بالمسؤولية الكاملة عن محاولة الانقلاب الفاشلة التي وقعت في 2016، حيث لاتزال واشنطن ترفض تلبية طلب تركيا الخاص بوقف أنشطة التنظيم السياسية والاقتصادية على أراضيها، وتماطل في تسليم غولن لمحاكمته أمام القضاء التركي.  

اس – 400 والتعاون العسكري التركي – الروسي

إلى جانب استمرار الخلاف في وجهات النظر بشأن منظومة الصواريخ الروسية إس – 400، خصوصا بعد أن أبلغت أنقرة واشنطن بعدم تراجعها عن تلك الصفقة، والإعلان عن رغبتها في شراء منظومة باتريوت الأمريكية، مع تأكيدها أنها – أي أنقرة – ستكون مضطرة للبحث عن بدائل لسد احتياجاتها الدفاعية والاستراتيجية إذا استمرت السياسة الامريكية الخاصة باستبعادها من تصنيع المقاتلة إف – 35.

ولإدراك واشنطن لمسئوليتها الكاملة عما حدث من تقارب تركي – روسي في العديد من القضايا، وليس فقط في مسألة التعاون العسكري، تعهدت بالامتناع عن استخدام لغة التهديد، ووقف حملتها العدائية ضد تركيا، مع تأكيد تفهمها التام لاحتياجات تركيا الأمنية والعسكرية والاستراتيجية، وإمكانية تزويدها بمنظومة باتريوت، تأجيل وتحييد الخلاف بشأن منظومة الصواريخ الروسية، وإحالته إلى الحوار وطاولة المفاوضات ما يعد نجاحا آخر لتلك الزيارة، في ملف يدرك الجميع صعوبة حله في المدى القصير.

اعتماد سياسة الحوار لتحقيق المصالح المشتركة

ومع استمرار التباين في وجهات النظر حول تلك القضايا والملفات، يصبح من المبكر الآن الحديث عن أن العلاقات الأمريكية – التركية اجتازت مرحلة الخطورة التي مرت بها خلال الفترة الماضية، إلا ان اعتماد سياسة الحوار بينهما من شأنه تحقيق مصالحهما معا، خاصة وأن إدارة ترمب حريصة على عدم التصعيد مع تركيا قبل انتخابات 2020، كما أن تركيا تدرك تماما أنه ليس من مصلحتها الدخول في مواجهة مع واشنطن لا سياسيا ولا اقتصاديا.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه