زنازين بلا بطاطين

كثير من الناس عند الحديث عن السجون في مصر يستحضرون الصورة التي يرونها في الإعلام لسجون بلاد أخرى، والواقع أن السجون المصرية لا تمت لما في المخيلة بصلة، وحتى نضع قاعدة فارقة، تُجلي الصورة وتُظهر المفارقة، فلا تعرف العنابر والزنازين في مصر فكرة الأَسرّة، وإنما النوم على البلاط أو المصاطب الإسمنتية، ولا يتسلم المعتقل عند دخوله أي فرش أو أغطية، وإنما يتشارك مع إخوانه فيما ورثوه عن أسلافهم من البطباطين (الميرى) السوداء المهلهلة، المصنوعة من أخشن أنواع الخيش، وأردأ خيوط النسيج، فلا تمنع البرد ولا تحمي من الصقيع.

وأنا أنقل هذا عن معايشة وتجربة، حيث كنت من نزلاء سجون طرة في مثل هذه الأيام من شتاء عام 1995 وكانت البطانية الواحدة يلتحفها اثنان أو أكثر، ويفترشون مثلها ويوضع تحتها بقايا من الكراتين الورقية!

في أمن الدولة

وأذكر في زنزانة مبنى مباحث أمن الدولة (جابر بن حيان) بالجيزة كنت الوحيد الذي معه بطانية “عادية” سمحت بدخولها “الواسطة” من باب العصبية الصعيدية،

ولا أدري كيف خالفنا بين أرجلنا ورؤوسنا حتى اتسعت لثمانية!

وكلما توفر لدى المعتقلين ما يعينهم على البقاء على قيد الحياة يأتي تفتيش مصلحة السجون ليعيد الزنازين إلى سيرتها الأولى، ويستولي على كل ما فيها، مع ما يصاحب ذلك من شدة الضرب وتعمد الإهانة.

مرّ هذا الشريط أمام عيني سريعا، وأنا أتابع موجة البرد القارس التي عمت مصر وسجونها، لكن الذي لا يُدرى كُنهه، ولا يُفهم سببه، لماذا يصر النظام المصري على منع دخول الملابس الشتوية الداخلية، ومصادرة الأغطية من داخل الزنازين المَقيتة، التي تحولت إلى ثلاجات مميتة؟!

لاسيما سجن العقرب الذائع الصيت في التنكيل والتعذيب، حتى تتابعت في الأيام الماضية أخبار حالات الموت من شدة البرد، وكانت البداية في 4 يناير/ كانون الثاني في سجن العقرب حيث توفي المعتقل محمود صالح  البالغ من العمر 46 عاما بسبب البرد الشديد، وفي 8 يناير / كانون الثاني توفي في قسم شرطة بندر الأقصر المعتقل محمود محمد وعمره 37 عاما، وفي نفس اليوم توفي علاء الدين سعد في سجن برج العرب وعمره 56 عاما، ثم توفي مصطفى قاسم المصري الذي يحمل الجنسية الأمريكية في 13 يناير/ كانون الثاني في مستشفى السجن حيث كان مضربا عن الطعام لتدهور حالته الصحية، ومنع الأدوية والأغطية، ونظرا لازدواج جنسيته سلط الإعلام الضوء على ظروف وفاته، وعلق أعضاء في الكونجرس الأمريكي على سياسة القتل البطيء التي يمارسها النظام المصري على المعتقلين، وأنه لايزال هناك من ينتظر نفس المصير من الأمريكيين الآخرين !

الديكتاتور المفضل:

وبما أن السيد ترمب يرى في السيسي ديكتاتوره المفضل كما يحلو له أن ينعته، فلن يتطرق لجرائمه وتعنته، وكأن من يحمل الجنسية المصرية وحدها فلا حرج على هؤلاء السفكة في تعذيبه وقتله!

هل بلغت شهوة الانتقام هذا الحد، حتى تتكرر هذه الحالات من الموت من شدة البرد؟

وتتحول المطالبات من ضرورة الإفراج عن المعتقلين المظلومين، إلى استجداء دخول الأدوية والبطاطين؟!

ما كان يُعرف بالعالم الحر وبلاد الحريات فضلوا مجاملة المجرم على محاسبته وتذكيره بجرائمه،

وراق لهم تصديق التمثيليات المسرحية الباهتة عن مستوى الرفاهية التي عليها السجون، والتي لا يرى شيئا منها المواطن المصري في حياته العادية بعيدا عن الأسوار العالية والغرف المظلمة.

إذا كنا لا نملك إلا الدعاء لهؤلاء الأُسَارى، فإننا نملك السؤال على أهليهم وذويهم، وتفقد حاجاتهم والتخفيف من معاناتهم إلى أن يأتي الله بالفتح أو أمر من عنده، وإن ربك لبالمرصاد، ولا تضيع عنده حقوق العباد

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه