رمضان في زمن الهرج

المتأمل للإسلام في عباداته وتشريعاته، حتى في نظرته إلى أنبياء الله وأتباعهم، يجد قاعدة واضحة جلية، هي قاعدة الأفضلية، مبعثها قوانين إلهية وخصائص ربانية، حيث فَضّلَ ربنا تعالى وتقدس بعض الأزمنة على بعض:  (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ).

“وعن أَبي بَكْرَةَ نُفَيْعِ بنِ الحارثِ، عن النَّبيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّه السَّماواتِ والأَرْضَ: السَّنةُ اثْنَا عَشَر شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُم: ثَلاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقعْدة، وَذو الْحجَّةِ، والْمُحرَّمُ، وَرجُب مُضَر الَّذِي بَيْنَ جُمادَى وَشَعْبَانَ…”رواه مسلم.

وفَضّلَ الله شهر رمضان بأن جعله ظرف زمان تنزل القرآن (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ ).

وفَضّلَ ليلةً منه على سائر الليالي والأيام هي ليلة القدر والشرف، بل جعلها خيرا من ألف شهر.

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ).

وفَضّلَ يوم الجمعة على سائر أيام الأسبوع، وميزه بما جعله متفردا عن غيره

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “نَحْنُ الآخِرُونَ السَّابِقُونَ يَومَ القِيامَةِ، بَيْدَ أنَّهُمْ أُوتُوا الكتابَ مِن قَبْلِنا، وأُوتِيناهُ مِن بَعْدِهِمْ، وهذا يَوْمُهُمُ الذي فُرِضَ عليهم فاخْتَلَفُوا فِيهِ، -يوم الجمعة- فَهَدانا اللَّهُ له، فَهُمْ لنا فيه تَبَعٌ، فالْيَهُودُ غَدًا، والنَّصارَى بَعْدَ غَدٍ “.  رواه مسلم.

خير يوم

وروى أيَضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا).

وفيه ساعة ليست كغيرها من الساعات: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (فِي الْجُمُعَةِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي فَسَأَلَ اللَّهَ خَيْرًا إِلَّا أَعْطَاهُ). رواه البخاري

وفَضّلَ الله بعض الأماكن على بعض فجعل مكة المكرمة خير البلاد، والبيت الحرام خير البقاع، والكعبة المشرفة أقدس الأماكن، زادها الله تشريفا وتعظيما، ومهابة وبرا، وزاد من زارها كذلك.

وفَضَلَ الحرمين الشريفين والمسجد الأقصى عن سائر بيوته في الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثلاثةِ مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى). رواه البخاري

وفَضّلَ تربة المدينة النبوية على كل صعيد، وبها كان يتداوى الناس، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للمريض” بسم الله، تربة أرضنا، بريقة بعضنا، يشفى سقيمنا بإذن ربنا “. متفق عليه

وَصِفةُ ذلك كما قال الإمام النووي رحمه الله: ” أنه أخذ من ريق نفسه على إصبعه السبابة، ثم وضعها على التراب فَعَلَق به شيء منه، ثم مسح به الموضع العليل أو الجريح قائلاً الكلام المذكور في حالة المسح. “

وطوبى لمن وارى جسده ثراها، عن ابن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها، فإني أشفع لمن يموت بها”.   

  حتى في شأن الأنبياء والمرسلين قال تعالى: (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۘ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللهُ ۖ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ۚ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ۗ )

والخمسة أولو العزم من الرسل أفضل من غيرهم، وهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين. ورسول الله محمد هو خاتمهم وأفضلهم

عَنْ أَبِي سَعِيدٍ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَلَا فَخْرَ ، وَبِيَدِي لِوَاءُ الحَمْدِ وَلَا فَخْر ، وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمُ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي ، وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الأَرْضُ وَلَا فَخْر ). ” صحيح الترمذي”

قال شراح الحديث وإنما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك من باب الإخبار عن الواقع الذي أوحاه الله إليه وأمره بتبليغه.

كذلك من آمنوا به واتبعوه ونالوا شرف صحبته لهم درجات، ولكل منهم مقامه المعلوم، حيث كان مستقرا في نفوس الصحابة أن أبا بكر هو أرضاهم وأصفاهم، ومن بعده في المنزلة عمر رضي الله عنهما، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا، قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ، ثُمَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ، ثُمَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ رَضِيَ الله عَنْهُمْ). البخاري

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة أبوبكر فعمر ثم عثمان وعلي رضي الله عن الجميع.

ذكر كُتاب السير أن أبا بكر رضي الله عنه لما ولي الخلافة وصعد المنبر للخطبة نزل درجة عن التي كان يقف عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولما جاء عمر وقف حيث وقف الصديق، ولما ولي عثمان نزل عن درجة الشيخين!!

فإذا جاء رمضان وأنت في الحرم فقد جمعت بين شرف الزمان والمكان، وإن حيل بينك وبينه فقد كتب الله أجر ما نويت، وباء بالوزر والسخط وسوء العاقبة كل من صَد أو مَنع. لكننا في هذا الرمضان نصوم في حال غير الحال، حيث فرض فيروس كورونا كلمته، وترك على كل شيء بصمته، حتى أصبح شعار الناس “لا مِساس”!

الكعبة بلا طائفين، والمساجد بلا مصلين، والتراويح في البيوت، والتزاور مقطوع ومبتوت!

لكن المؤمن مأجور على كل حال: وَعَنْ أبي يَحْيَى صُهَيْبِ بْنِ سِنَانٍ  قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله ﷺ: (عَجَباً لأمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ للْمُؤْمِن: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْراً لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خيْراً لَهُ. ) رواه مسلم.

وطوبى لمن حول المحنة إلى منحة، واستفاد من هذه الحالة التي ندعو الله أن تنقشع، واستثمر فراغه بعد شغله، واعتنى ببيته وولده، وربح من فائض الساعات، ما يحقق به الأهداف والغايات، لا سيما وقد وعد النبي صلى الله عليه وسلم على العبادة في هذه الأزمنة ثوابا عظيما وفضلا كبيرا، قال صلى الله عليه و سلم: «العبادةُ في الهَرْجِ كهجرةٍ إليّ». (رواه مسلم) قال النووي: المراد بالهرج هنا الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يغفلون عنها ويشتغلون عنها، ولا يتفرغ لها إلا أفراد.

ثواب العابدين عند كثرة الغافلين، يعدل ثواب من هاجر إلى الرسول الكريم، والهجرة من أفضل الأعمال وأثقلها في الميزان، قال عليه الصلاة والسلام:

(الأنصار شعار والناس دثار، ولو أن الناس استقبلوا وادياً أو شِعباً واستقبلت الأنصار وادياً لسلكت وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار).

زمن كورونا حتما سينقضي، وغمتها قطعا ستزول، فهذه بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي رواها ابن مسعود أنه قال: “ما أنزل الله عز وجل داء إلا أنزل له دواء، علمه من علمه وجهله من جهله.” ولكن الأمور تجري بالمقادير (إنا كل شيء خلقناه بقدر). 

إن هذه المرحلة صورة مصغرة من الحياة الدنيا، تهيأ فيها من أسباب العمل وفرص التوبة الشيء الكثير، فإن مرت وانقضت قال عندها الإنسان يا ليتني قدمت لحياتي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه