رؤساء تحرير السجون المصرية

تمثل الصحافة الحرة ضمير المجتمع، ويمثل الصحفيون الأحرار لسان المجتمع وعيونه، ولذا فحين تعتقل السلطات القمعية الصحفيين فإنما تريد قطع هذه الألسنة وفقأ تلك العيون، حتى يصبح المجتمع أعمى فلا يرى سوءات النظام، وأخرس فلا يستطيع التعبير عن نفسه، ومن هنا يبدي المجتمع المحلي والدولي دوما قلقا خاصا لاعتقال الصحفيين، لأن ذلك يعطي مؤشرا على حالة توحش النظام الحاكم، وفتكه بالحريات.

كل لون وصنف

تكتظ سجون مصر حاليا بالصحفيين من كل لون وصنف، ومن كل الأعمار بدءا بشباب صغار في العشرينات وصولا إلى شيوخ في الستينيات، ومن محررين متدربين وحتى رؤساء تحرير لصحف أو مواقع معروفة ولها بصمتها في المجتمع المصري.

من بين حوالي مئة صحفي يتوزعون على سجون مصر المختلفة هناك حوالي ٥ رؤساء تحرير، حري بِنَا أن نفيهم حقهم، فما كان أيسر بالنسبة لهم أن يتذرعوا بسنهم وشيبتهم، ومركزهم الوظيفي ليتجنبوا هذا الحبس الذي لا تقوى أجسادهم المتعبة على مواجهته، لكنهم جميعا أبوا إلا أن يكونوا في مقدم صفوف المواجهة بالكلمة المنطوقة والمكتوبة.

أحدث رؤساء التحرير السجناء هو عادل صبري رئيس تحرير “مصر العربية”، وأكبرهم سنا مجدي حسين رئيس تحرير جريدة “الشعب الجديد”، وأقدمهم حبسا محسن راضي رئيس تحرير مجلة “التجاريين” السابق ووكيل لجنة الثقافة والإعلام ببرلمان الثورة، وبينهم هشام جعفر رئيس مجموعة “مدى” ورئيس تحرير شبكة إسلام أون لاين سابقا، وبدر محمد بدر رئيس تحرير صحيفة “الأسرة العربية”.

لم يسع أي من الرؤساء الخمسة للسجن بأرجلهم، لكنه فرض عليهم وهو كره لهم، ولعلهم يكونون حقا “رؤساء تحرير” للسجون من الظلم، وتحرير كل السجناء من صحفيين وغير صحفيين.

قصة مجدي حسين

 ولنبدأ بأكبرهم (٦٧عاما) وهو مجدي أحمد حسين رئيس تحرير صحيفة الشعب الجديد التي تصدر عن حزب الإستقلال، وهو نموذج للصحفي صاحب الرسالة والموقف الذي دفع من قبل أثمانا كثيرة دفاعا عن رأيه، ودفاعا عن حرية وطنه وشعبه، مُنذ بداياته الإعلامية منتصف السبعينات في إذاعة “صوت العرب” ووكالة أنباء الشرق الأوسط  ثم جريدة “الشعب” في الثمانينيات، والتي أصبح رئيسا لتحريرها منذ أواخر التسعينيات حتى إغلاقها في مايو عام ٢٠٠٠

كان مجدي حسين واضحا في مقالاته الرافضة لانقلاب الثالث من يوليو ٢٠١٣، واحتضان كل الأصوات الرافضة للانقلاب في صحيفته، وقد تم القبض عليه بتهمة سخيفة (ازدراء الأديان) وحقيقتها أنه كان يسخر من إساءة استخدام رموز السلطة للقرآن لتبرير جرائمهم بحق الشعب، وأضيف إليها تهمة نشر أخبار كاذبة لتقضي المحكمة بحبسه ثماني سنوات بالمخالفة للدستور المصري الذي يمنع الحبس في قضايا النشر.

لا تنقطع الأخبار عن تصاعد المعاناة المرضية لمجدي حسين في محبسه، إذ يعاني من مشاكل صحية في العمود الفقري والقلب وارتفاع ضغط الدم، بالإضافة إلى الانزلاق الغضروفي الذي بدأ يؤثر على قدرته على الحركة والمشي بصورة طبيعية.

راضي وطريق قليوب

أما محسن راضي البرلماني ووكيل لجنة الثقافة والإعلام في برلمان الثورة ورئيس تحرير مجلة التجاريين السابق فهو الأقدم في الحبس (سبتمبر ٢٠١٣) وتهمته مضحكة وهي قطع طريق قليوب، وتهم مشابهة أخرى تجاوزت أحكام الحبس فيها الستين عاما، فيما بدا أنه انتقام منه بسبب دوره الرقابي والتشريعي في مجلس الشعب، وقد أكدت أسرته إصابته بإغماءات متكررة، وتناثر القرح الجلدية على ظهره وقدمه، بالإضافة إلى أمراض السكر والضغط والنقرس والأمراض الصدرية.

معاناة هشام جعفر

وأما الصحفي والباحث هشام جعفر فقد أمضى في محبسه الاحتياطي حتى الآن أكثر من ٩٠٠ يوم متجاوزا الحد الأقصى بنص القانون، وتتعنت إدارة السجن معه بصورة لافتة، حيث تحرمه من الزيارات القانونية، كما ترفض نقله لتكملة علاجه على نفقته الخاصة في مشفى خارجي، وتتركه نهبا للمرض، وخاصة ضمور العصب البصري الذي يهدد بفقدانه للبصر.

الغريب أن إحدى التهم الرئيسيّة الموجهة لهشام جعفر هُي الانضمام لجماعة الإخوان، بينما يعرف الجميع بمن فيهم الأجهزة الأمنية كذب ذلك الإتهام الذي أصبح مشرعا في وجه كل صحفي كما حدث مع شوكان وحسام السويفي وأخيرا عادل صبري رغم أنهم والكثيرين غيرهم من الصحفيين السجناء معروفون بتوجهاتهم غير الإخوانية (لايعني هذا أن حبس من ينتمون للإخوان هو عمل مشروع ولكن المقصود هو توضيح كذب الاتهامات).

هشام الذي شغل نفسه كثيرا بنشر ثقافة التسامح، والذي شارك الأزهر والكنيسة المصرية الكثير من الأبحاث والفعاليات لهذا الغرض يبدو أنه يدفع الآن ضريبة لذلك، فالنظام الحاكم قائم أساسا على سياسة (فرق تسد) وعلى تقسيم وتمزيق المجتمع المصري، وبالتالي فإن دعوات التسامح والحوار تمثل تهديدا وجوديا له.

“بدر” اتهامات مكررة

وأما الصحفي بدر محمد بدر رئيس تحرير جريدة الأسرة العربية، ومدير مركز للتدريب الإعلامي، وقد تخرج على يديه العديد من الصحفيين، وتم القبض عليه من مكتبه يوم ٣٠ مايو ٢٠١٧، ويواجه إتهامات مكررة بالانضمام لجماعة غير مشروعة ونشر أخبار كاذبة تكدر الأمن العام.

صبري وثمن التغطية

أحدث رؤساء التحرير دخولا للسجن هو عادل صبري، والذي يدفع ثمن تغطيات موقعه المستقلة والمتنوعة للإنتخابات الرئاسية الأخيرة، وسماحة لرموز معارضة ومستقلة بالتعبير عن رأيها عبر الموقع الذي يرأس تحريره  (مصر العربية) وهو ما يبدو متعارضا مع رؤية النظام لإعلام الصوت الواحد المصطف خلفه في كل سياساته وقراراته.

لقد كان موقع مصر العربية ضمن أصوات محدودة جدا تعاملت بمهنية وباستقلالية في الفترة الأخيرة، لكنها كانت تواجه موجة عاتية من الهيمنة الحكومية الكاملة على غالبية المنابر الإعلامية، ووضعها تحت إدارة شركات تابعة للمخابرات الحربية، بعد حجب أكثر من 500 موقع بينها “مصر العربية” وهو ما قضى على ما تبقى من حرية للصحافة المصرية، التي تعاني في ظل هذه السلطة أسوأ أيامها.

إن وجود خمسة من رؤساء تحرير الصحف والمواقع مع حوالي مائة صحفي ومصور داخل السجون المصرية هو تجسيد واضح لما وصلت إليه حرية التعبير في مصر في ظل هذا الحكم العسكري، والذي يمضي في طريقه للقضاء على الصحافة ذاتها (وليس فقط حريتها) وهو ما يستوجب موقفا حازما من جموع الصحفيين والإعلاميين دفاعا عن مهنتهم وحريتهم، بل دفاعا عن لقمة عيشهم

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه