ذكرى يوليو.. السيسي يخلع جلباب ناصر!

شيء ما تغير، وفتح الباب لتلك الأصوات لتطلق سهامها صوب عبد الناصر وحركته، أو انقلابه، لم يكن هذا الشيئ سوى ممسك الريموت نفسه الذي وجه من قبل بتوصيف السيسي باعتباره خليفة عبد الناصر

على خلاف السنوات الخمس الماضية شهد الاحتفال بذكرى 23 يوليو 1952 هذا العام هجوما كاسحا على تلك الحركة ورجالها، وإذا كان الهجوم طبيعيا ومفهوما من الليبراليين والإسلاميين إلا أن اللافت هو مشاركة رموز وقوى دعمت انقلاب الثالث من يوليو 2013، وشبهت أو ساوت، أو طربت لذاك التشبيه بين عبد الفتاح السيسي وانقلابه في يوليو 2013، مع جمال عبد الناصر وانقلابه في يوليو 1952.

 شيء ما تغير، وفتح الباب لتلك الأصوات لتطلق سهامها صوب عبد الناصر وحركته، أو انقلابه، لم يكن هذا الشيئ سوى ممسك الريموت نفسه الذي وجه من قبل بتوصيف السيسي باعتباره خليفة عبد الناصر، ونشر صورة لطفل صغير يصافح ناصر، وقيل إن هذا الطفل هو عبد الفتاح السيسي نفسه لتختفي هذه الصورة سريعا بعد أن أدت غرضها في حينه.
وروج هذا الممسك بالريموت لبوسترات تحمل صورة الجنرالين (ناصر والسيسي) باعتبارهما وجهين لعملة واحدة، أو أنهما خلفاء العسكرية المصرية، وأنهما ذرية بعضها من بعض، وملأت تلك الصور بقدرة قادر العديد من الميادين في العامين الأولين لانقلاب السيسي الذي وجد ضالته في الالتصاق بصورة عبد الناصر، الذي حظي بشعبية لا تنكر بسبب انحيازاته الاجتماعية لاحقا.

تراجع الصورة

تراجعت الصور التي جمعت بين ناصر والسيسي من قبل، ومن الواضح أن السيسي بدأ يشعر بالغيرة من ناصر، وأنه ليس أقل منه قوة وبطشا، فلماذا يتشبه به؟، أو يسمح لهذا التشبيه الذي يضعه دائما موضع الصورة أو الظل في مواجهة الأصل (عبد الناصر)؟، فإذا كان عبد الناصر قد قاد انقلابا عسكريا على الحكم المدني (الملكي) فإن السيسي قاد انقلابا مماثلا ضد الحكم المدني، وإذا كان عبد الناصر قد قتل بضع عشرات من خصومه السياسيين فإن السيسي قد قتل آلافا، وإذا كان عبد الناصر قد حبس عشرين أو ثلاثين ألفا فإن السيسي حبس أكثر من ستين ألفا، وإذا كان عبد الناصر قد أمم قناة السويس فإن السيسي حفر تفريعة أطلق عليها “قناة السويس الجديدة”، وإذا كان عبد الناصر قد بني مدينة نصر (أحد ضواحي القاهرة)، فإن السيسي يبني العاصمة الإدارية الجديدة التي ستحمل اسمه.
إذن فلماذا يظل الجنرال مجرد ظل لسلفه، ولماذا يستمر متسربلا ثوب ناصر الذي ضاق عليه، وهو الذي أصبح يرى نفسه أهم وأقوى من عبد الناصر؟!

اختفاء التعليمات

في السنوات الخمس الماضية كانت هناك تعليمات توجه الكتاب وأنصار النظام للتغني بناصر وحركته، باعتبارها ثورة مباركة، أنقذت مصر من الاستعمار والإقطاع والتخلف، وكانت تلك “التعليمات” توجه لربط السيسي وانقلابه بعبد الناصر وانقلابه، أما هذا العام فقد اختفت تلك التوجيهات سواء المكتوبة أو الشفهية، وتركت السلطة لرجالها ولغيرهم الحبل على الغارب ليتعاملوا بطريقتهم الخاصة مع الذكرى، وهنا حدثت “لخبطة” فقد فهم البعض الأمر أنه توجيه لهم بفك الارتباط بيوليو 1952 إظهارا لاستقلال وتميز انقلاب يوليو 2013، وقد بالغ هذا البعض في نقده لناصر وتجربته، في حين فهم البعض الآخر بقاء الوضع كما كان، أي استمرار الاحتفاء بالذكرى، ولذلك خرجت بعض صحف النظام تحمل هذه الرؤية أو تلك دون موقف موحد.

تكريم الغرماء

كانت نظرة السيسي نفسه ليوليو 1952 مختلفة عن سنوات ماضية، فخلافا لحالة الاحتفاء الكبير منه بقائد تلك الحركة جمال عبد الناصر خلال الأعوام الأربع الماضية حرص السيسي هذا العام على تكريم غريمين لعبد الناصر، أولهما اللواء محمد نجيب أول رئيس للجمهورية وقائد حركة الضباط الأحرار والذي وضعه عبد الناصر في إقامة جبرية لسنوات حتى مات.
وحرص على محو أي ذكر له في كتب التاريخ حتى إن مندوبا من جهاز التعبئة العامة والإحصاء ذهب إلى بيت نجيب في مهمة روتينية لحصر أعداد الساكنين، ووظائفهم ضمن تعداد عام، وسأل المندوب نجيب عن وظيفته، فكان رده الذي أدهش المندوب أنه “رئيس جمهورية سابق”، فلم يكن ذلك المندوب قد تعلم في كتب التاريخ أن رئيسا لمصر سبق جمال عبد الناصر اسمه محمد نجيب.
ويبدو حرص السيسي على استدعاء اسم محمد نجيب هذا العام مستهدفا التقليل من وزن جمال عبد الناصر في تلك الحركة، كما أن السيسي حرص على تكريم غريم آخر لعبد الناصر هو العقيد يوسف صديق عضو مجلس قيادة الثورة، والذي منح السيسي اسمه قلادة النيل، بعد أن حوصر ذلك القائد الذي أنقذ حركة يوليو كثيرا في عهد عبد الناصر بعد أزمة مارس 1954 التي انحاز فيها صديق إلى اللواء محمد نجيب دفاعا عن الديمقراطية، وحبس صديق لمدة عام ثم وضع تحت الإقامة الجبرية مثل نجيب، وهذا التكريم لكل من نجيب وصديق بالتأكيد هو ضرب تحت الحزام من السيسي لعبد الناصر.

مغازلة الشرائح الشعبية

حماس السيسي لعبد الناصر والتصاقه به في السنوات الأولى لحكمه كان مغازلة للشرائح الشعبية التي أحبت عبد الناصر من قبل، كما كان مغازلة للقوى الناصرية واليسارية التي صدقت خديعة السيسي، وتنافست في التزلف له، وتبرير جرائمه، بل إن كبار الكتاب الناصريين تنافسوا فيما بينهم ومع غيرهم لانتزاع وظيفة كهنة النظام، وعرابيه، لكنهم خسروا المنافسة في النهاية لصالح شخصيات باهتة، أكثر شبها بالنظام لا لون لها ولا طعم، لم يفق غالبية رموز الناصرية بعد لخديعة السيسي، ولا يزالون يرتمون في أحضانه، رغم حملات الهجوم ( الممنهجة)على قائدهم وتجربتهم، وظلوا يوجهون جام غضبهم ضد الإخوان، ويطالبونهم بالاعتذار بينما لم يجرؤا هم على الاعتذار عن مآسي العهد الناصري، وأبرزها القمع وتغييب الحريات، وقتل الديمقراطية، والتسبب في الهزائم العسكرية المتكررة التي تعاني مصر من تبعاتها حتى اليوم.

مدارسة التاريخ

انقلاب يوليو 1952 أصبح تاريخا الآن، وعبد الناصر نفسه بين يدي ربه، والنظر للمستقبل هو الأهم، والأجدى، ونقد التجربة الناصرية، وعلاقة الأطراف المختلفة بها مطلوب في إطار مدارسة التاريخ، وتجنب الأخطاء، وتعزيز الإيجابيات، وكما كان لتلك التجربة أخطائها فقد كان لها إنجازاتها التي دفعت قطاعات شعبية واسعة للانحياز لها، وعلى رأسها بناء قاعدة صناعية، والانحياز للفقراء، والتوسع في التعليم والعلاج المجاني، والسعي لتحقيق الوحدة العربية الخ، لكن كل ذلك أيضا كان يمكن أن يتحقق، وربما بصورة أفضل في ظل حكم مدني وليد إرادة شعبية نزيهة، وخاضع لرقابة شعبية أمينة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه