د نور الدين العلوي يكتب: قبل أن تصبح “النهضة” ضحية للنظام

إذا لم تتجرأ الحركات الإسلامية (النهضة مثالا) على الحكم وتفرض خيارات الشارع التنموية فإنها لن تكون مطية لعودة النظام بأبشع صوره فقط، بل ستكون ضحيته المفضلة.. يتبع.

د. نور الدين العلوي*

درس أساسي لدى الجماعات الإسلامية يقدم لأطفالهم منذ الخطوات الأولى طبقا للآية “وأعدوا” وهو أن المؤمن القوي خير عند الله من المؤمن الضعيف. وتختلف الفصائل في نوع القوة ومقدارها. القوة بالسلاح (داعش) والقوة بالدعوة إلى حسن الخلق (عند الدعويين). هذا المدخل سهّل لأعداء الحركات الإسلامية الحديثة وصمها بالعنف والإرهاب ووضعها دوما في موضع الدفاع عن نفسها ضد هذه الوصمة وكلما حاولت الاقتراب من صيغة الأحزاب المدنية الحديثة وجدت من يذكرها بهذا المذهب/ المنطلق. وفي الوقت الذي بدأ البعض يصدق هذه التوجهات المدنية رفعت في وجهها  تهمة النفاق المرحلي من أجل التمكين أو نعتت بممارسة التقية لإخفاء وجه الإرهاب عن الشعوب التي ولدت مدنية.
وأعتقد أن حزب النهضة (تونس) الذي صار جزءا من المشهد السياسي يمر من هذه المرحلة الحرجة محاولا إثبات  مدنيته وسلمية وسائله وديمقراطيتها. لكني أراه بفعل ذلك بمسكنة تكشف  تربية مسكينة. ولذلك  سأحاول مقاربة فهم هذه  الرغبة الذليلة في الاندماج. وسأنظر إلى انعكاسات هذه المساعي العسيرة في  الاندماج على نفسية المسلم النهضوي وربما يمكن لنا التعميم على المسلم  الإخواني (الإخوان وتفريعاتهم القُطرية). وكيف انتهت الشخصية الأساسية المرتجفة بتفضيل  التربية الدعوية الصوفية  إلى حد  التماهي مع نوع من مسيحية زاهدة لكن من دون إخلاص حقيقي.
التربية المسيحية
عندما خرج الإسلاميون من السجون  وعادوا من المهاجر  في لحظة الثورة  تحدثوا عن التمكين واستعادوا قصة النبي يوسف. وكيف مكن له في الأرض بعد عنت. لكنهم غفلوا عن أن انتصارهم جاء  في سياق ثورة شعبية مندفعة، من دون قيادة وتحتاج من يحملها خطوات أخرى إلى الأمام. لكن الرغبة  في الاندماج في النخبة السياسية جعلهم يضحون بالموجة الشعبية لصالح مكانة ضمن النخب، فكانت لهم مكانة العبد في مجلس سادة (أكثر من 70  عضوا في هيئة بن عاشور لحركة التجديد/ الحزب الشيوعي، مقابل 5 أعضاء للنهضة). رغم ذلك ورغم العبث تلك الهيئة بالقانون الانتخابي فإن الاندفاع الشعبي  الثائر  صوت لهم في 2011، لكنهم صبوا عليه ماء باردا من الحكمة والتعقل والصبر  ففتحوا في الموجة الثورية ثغرة دفرسوار  تسرب منها شارونات النظام. 
في تقديري  أن هذه الخيارات الثورية لا تدور في خلد النهضويين  (الإسلاميين عامة) لأنهم رغم درس التربية على القوة، لم يبنوا الفرد القوي الذي يغير . لقد بنوا فقط الفرد القوي الذي يصبر على الظلم ويحلم ربما بتغييره ولكن يعجز عن تحويل أحلامه بالقوة إلى قوة فعلية. وربما خلق ظلما وسلطه على نفسه ليتمتع بالصبر على الأذى. هذا النموذج التربوي أنقذهم من جنون السجون الانفرادية وحافظ على تماسكهم التنظيمي،  لكن ذلك لا يمنعنا من القول  إنه تصبُّر  مسيحي في جوهره، منه انبثق في التاريخ الإسلامي الكثير من التربية الصوفية التي تنكمش  خوفا أو رهبة وتبني معازلها. وهو ينتج  الآن خوفا مرضيا من  تحمل أعباء القيادة . إذ يبدو أن  صورة العالم في ذهن الفرد الإسلامي هي أن يكون مظلوما. موقع المظلوم  مريح نفسيا (الجزاء في الابتلاء والجزاء الأخروي  مقدم على متعة الحياة الدنيا). 
إن القوة عندهم مرادف للصبر على الأذى، وليست  قوة السعي إلى التغيير، إنهم مؤمنون في الأخدود. وربما استزادوا من الحطب ليكون الشِّواء تاما. إنهم مسيحيو الروح (رغم سعيهم إلى الدنيا) هذه التربية انتهت بهم  في أحضان النظام القديم. فأعادوا لقيصر ما كان له.
الاعتذار بتاريخ القمع
إذا نظرنا  في سياساتهم ما بعد الثورة سنجد أنهم برروا عبث خصومهم بالدولة، وهي بين أيديهم، بدعوى اجتناب الحرب الأهلية. لقد رماهم الناس بالحجر في الشوارع فردوا بالصبر على المكاره واعتبروا ذلك أسلوب حكم الدولة.  عقلهم المسيحي  زين لهم  أنهم  مسؤولون عن نعاج الرب ويجب أن يعودوا بها إلى الزريبة فلا يأكلها الذئب. ورغم أن نعاج الرب هي التي أطردت الذئب وفوضتهم إلا أنهم لم يطرحوا السؤال عمّا إذا كان الذئب موجودا فعلا أم هو ضبع  جائع يمكن إخضاعه بالقليل أو ضربه على رأسه .
النهضوي اصطنع عقلا تبريريا مفضلا مهادنة النظام والدخول فيه كحل لفشل تجربته في الحكم منذ الثورة. لقد حول تاريخ القمع إلى حجة عجز مقدما الإيثار الأخلاقي والصفح على  إرساء العدالة والقانون.  لقد واجه  نذالة النظام بالصبر على المكاره، أو ما اعتقده (أخلاق الفرسان ) فجعل الدولة تخسر قدرتها على الفعل وكشف  عجزه عن التحول من متصوف بكاء إلى سياسي فعَّال. لقد خسر سندا شعبيا كبيرا منح للحزب بعد انتخابات 2011 فلم يقدره الحزب حق قدره ولم يحوله إلى رصيد سياسي.
لقد برروا بتدرج عملية التماهي في النظام الذي حطم بنيانهم لأنهم لم يبنوا تصورا للعالم (للوطن) يكونون قيادته وذلك بحكم التربية القديمة التي يمكن أن تنتج معارضا ولم يمكنها إن تنتج قيادة. وها هم يتحولون مع الزمن إلى محبّة معذبيهم ويقبلون على أنفسهم ما قاله عنه أعداؤهم. لذلك سيجدون أنفسهم دوما في وضع الدفاع عن تهم لا يفسرون منشأها لكنهم يجمعون الحجج عن براءتهم منها. لقد صار الأمر آلية تفكير وموقعا في صورة  فكلما رماهم أحد بشيء قفزوا فرحين إلى موقع الدفاع وربما بكى بعضهم من الظلم الذي لا يستطيع رده. وربما وجد لذة في البكاء (وربما لديهم  الآن حجج براءة عن أخطاء لم يرتكبوها بعد).
إنهم من فرط  تقمص موقع المغلوب يفرحون لكل  كلمة خير تقال فيهم  حتى من أشخاص لا اعتبار لهم وليسوا من أهل الرأي والمشورة. إنهم يحولون الضحكة المنافقة في وجوهم إلى فتح مبين. ويفتون بحسن الظن. حتى أنهم جعلوا من بعض أدعياء الصحافة  نجوما مقابل استقبالهم لهم في بلاتوه تلفزي مهين.
إحدى اكثر النتائج النفسية لهذه التربية أهمية هي أن النهضوي بني مسلكا للتفكير يعمل كما يلي: يبالغ في توهم قوة خصومه. يسعى بحثا عن حيل لاجتناب الأذى (من أبرز الحيل المستعملة التودد لهم والسعي في مرضاتهم والتنازل عن حقوقه كمواطن من أجلهم) إلى حد التصاغر واحتقار الذات. وهو لفرط ما يفعل ذلك يتضخم الخصوم  في ذهنه حتى يصغر في عين نفسه ويقزمها. فيصغر في أعينهم فيزيدون في اضطهاده.  النهضوي تربية الخوف من التغيير يضع نفسه في موضع مستحق الصدقة السياسية .
فإذا أقنعت النهضوي أنه فوَّت فرصة تعاطف شعبي مع الثورة بقيادة النهضة يعرج  بك إلى حجة الضغوطات الخارجية الرافضة لحكم الإسلاميين في المنطقة العربية ويعرض الكثير من كواليس الضغوطات التي لم تظهر للعلن ويتخذها حجة للانحناء إلى عاصفة الرفض القوية خاصة (كأن الأساطيل رابضة في خليج تونس) وأنها تجد لها أنصارا في الداخل يريدون تلقف نتائجها والعودة إلى الاستئصال. والسؤال الذي لا يطرحه النهضوي هو: هل هناك موجة من التغيير (ثورة أو انتفاضة) عبر التاريخ، وهم الذين قرؤوا السيرة النبوية، لم تتعرض للضغوط المعادية والتخريب؟ ألا يفترض فيمن يتصدى للحكم أن يأخذ هذا بعين الاعتبار. وأن يعرض من سبل المواجهة ما يحوله فعلا إلى حزب قائد لا إلى حزب هارب.
أمام ضغوط بعضها حقيقي وأكثرها موهوم (تبريري) يهرب النهضوي من النظر إلى المشهد ما بعد 17 من ديسمبر/كانون الأول على أنه ثورة آخذة في الاتساع. ويمكن دفعها إلى مداها التغييري العميق بقوة الشارع وشعاراته المتحدية للضغوط الخارجية. أي تحويل الثورة ضد النظام المحلي إلى ثورة تحرير شاملة. تجر معها المخذلين وتقطع الطريق على الخيانات الداخلية(وهي حقيقية). النهضوي يرى هذا من المزايدة وأحلام الواقفين على ربوة شعب كسول وغير مؤمن بالتغيير.
هل من تفسير ؟
هل يكفي التفسير بآثار المعاناة ومخلفاتها؟ والقول بأن السجون دمرت عزيمتهم(المظلومية)؟ إن القوة  التي استعاد بها التنظيم  تماسكه  بعد الثورة وفي وقت قياسي تدل على أن النفوس لم تخرّب بل ربما استقوت بالصبر. لكن التنظيم القادر على تحريك  نصف المليون من البشر  في مظاهرة تحول إلى مسخرة تلفزية. 
أميل إلى تفسير الأمر بنمط التربية الذي اتخذته حركات الإسلام السياسي السلمية. مقتدية بقراءتها للسيرة النبوية. قبل الجهر بالدعوة وقبل الهجرة (هذه القراءة كانت سببا في انفصال أول الحركات الإسلامية العنيفة: جماعة التكفير والهجرة). وقد تحول فشل الحركات العنيفة (وآخرها داعش) إلى سبب إضافي ليهادن المعتدلون النظام القائم. ويتذاكون في تفاوض  مذل مع قوى دولية.
والسؤال الذي يترتب على هذا التفسير: إذا كان المتطرفون مرفوضين كأسلوب عمل، وإذا كان المعتدلون يفضلون مهادنة الأنظمة وتفريغ الثورات من مضمونها فأين ستتجه أفكار الإسلاميين وسلوكهم السياسي؟
لقد تبين أن الإسلاميين أخوة صبر (ونبلوكم ) لكنهم ليسوا قوة اقتراح ولذلك فإن هناك خطوات ستفرض نفسها على من يريد مواصلة الطريق:
لقد تم كسر  حلقة من حلقات  التربية القائمة على أساس الانفصال عن الجماعة الاجتماعية لا وجود لفرقة ناجية أبدا وهناك حلقات أخرى .
أولها الخروج من وضع  الأخ الطيب المنكمش إلى وضع المواطن ذي الحقوق وإعادة قراءة السيرة بعد الفتح (الخروج من دار الأرقم لمن يريد أن يؤصل فعله تأصيلا). إن الحزب المدني يربي  بطريقة مدنية (المدنية لا تتناقض مع الأخلاق الدينية).
ثانيا فتح  معارك التنمية بصوت جهوري وإعادة مطالب الشارع  فوق طاولة الحكم. وإذا أراد الحزب أن يحكم فعليه أن يدخل المعارك الحقيقية لشعب هو جزء منه. سيجد نفسه في سياق تغيير النظام وليس مهادنته وليس بالضرورة أن يكون التغيير عنيفا.
إن التفكير العملي(البراغماتي ) يغير الأحزاب، ومنها الحركات الإسلامية أيضا، فيخرجها من موقع الفرقة الناجية (أو الأخوية الصوفية) إلى الحزب الجماهيري(التفكير العملي ضد التفكير الأصولي). وهذه هي الطريقة الوحيدة للخروج من أخدود العذاب  ومن الإحساس بالهوان أمام ابتلاء القيادة.
النظام القديم يعيد حتى الآن طرح سلعته القديمة للتداول ومجادلته فيها أو السكوت عليه فيها يعيده على سرج المجتمع والدولة. لكن فتح معارك التنمية تسقط النظام فعلا ومن دون عنف، إذ تجره إلى قبولها، وبالتالي  التغيير، أو معاداتها فتهمشه.
إذا لم تتجرأ الحركات الإسلامية (النهضة مثالا) على الحكم  وتفرض خيارات الشارع التنموية فإنها لن تكون مطية لعودة النظام  بأبشع صوره فقط، بل ستكون  ضحيته المفضلة. وساعتها سيمتعها  بالصبر على نار الأخدود.

_______________________________

*أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه