د. نور الدين العلوي يكتب: في تفسير المعارك الثقافية وتأصيلها

نور الدين العلوي*

أُسدل الستار في تونس على مهرجان قرطاج السينمائي، وفرح المجازون بجوائزهم وحزن الباقون على هامش الفرجة والشهرة. ولكن الأسئلة العميقة لم تطرح بل غطت عليها مناوشات البنات المغرمات بصورهن وقد ملأن شاشات المهرجان بعروض جسدية جريئة ثم ملأن كواليس المهرجان بعراك نسوة في الحمام الشعبي.

فلم يجد المتسائلون بينهن وقتا لسؤال جدي عن محتوى المشروع الثقافي السينمائي الذي يدافع عنه المهرجان. ولا أحد وسع الأسئلة إلى المشروع الثقافي التونسي عامة ولا أحد خصص على مشروع اليسار الثقافي داخل المشروع التونسي. وهذه أسئلة ضرورية في مثل هذه المناسبة. لقد كان ضيوف حفل الاختتام سعداء وعبروا عن فرح غامر بأن لم يكن في الحفل امرأة واحدة محجبة ولأن الحجاب كان غائبا فقد استنتج كثيرون أن ليس للإسلام مشروع ثقافي وأن الثقافة يسارية أو لا تكون.

اليسار وتملّك الثقافة
يزعم اليسار التونسي أنه “رب الثقافة” وأن لا ثقافة إلا ما ينتجه ويضمِّنه يساريته النضالية وخاصة في مواجهة التيارات الدينية الرجعية القروسطية الخ. وهذا زعم ليس خاطئا لكنه واقع حال وليس قانونا ثقافيا.

واقع الحال أن اليساري العربي عامة واليساري التونسي خاصة اشتغل بالثقافة وأنتج في السينما وفي الشعر وفي الرواية في حين أن عدوه الإسلامي مازال يتحرك في منطقة تحريم الفنون وخاصة بعد وصول الإسلام التلفزي إلى كل بيت. بما يوحي أن لليساري مشروعا ثقافيا في حين أن الإسلامي لا مشروع له. هذا الواقع ليس اعتباطيا؛ لكنه محكوم بأمر آخر هو علاقة مع السلطة السياسية فاليساري ابن السلطة المدلل بينما الإسلامي طريدها الأبدي. ففي الوقت الذي كان الإسلامي في سجون السلطة كان اليساري يعشش في وزارات الثقافة.

ويحصّل من الدعم المالي والقانوني ما يكفيه لينتج السينما والمسرح ويسيطر على لجان الدعم والجوائز فيمنح نفسه جوائزه وينظم مهرجاناته ويغلق الأبواب في وجه أي صوت مختلف ولو لم يكن إسلاميا ثم يتبجح بأن لا ثقافة ألا ثقافة اليسار.

لكن لابد من سؤال آخر. ماذا وضع اليساري ضمن مشروعه الثقافي العميق والاستثنائي؟
هناك خيط ناظم في كل ما أنتج اليسار التونسي وخاصة خلال حقبة بن علي وبعد الثورة. لا مضمون إلا تحقير التيار الديني. وربط ذلك بالدين نفسه وليس بسلوك الأشخاص المتدينين.

يبدأ المشهد المكتوب أو المصور أو الممسرح من حركة صغيرة يقوم بها متدين كاعتداء على امرأة أو تصنيع قنبلة(وهي مواضيع مركزية منمطة في تصور اليساري للإسلامي) ثم يتطور النص بكل صيغه إلى أن ذلك هو السلوك الوحيد الممكن للإسلامي لا لأنه شخص مخطئ في تأويل النص الديني بل لأنه إسلامي فالإسلام (النص والممارسة) هو ذلك العداء المستحكم للمرأة وللسلام والمعادي للإنسانية وللحرية. ويعود اليساري فرحا مسرورا بالخاتمة. كل نصوص الأدب والكثير من الشعر والسينما والمسرح كتبها قلم واحد، أو قلم ينقع في دواة واحدة وبعقلية حربية تعتمد ممكنات الدولة المادية ووسائلها لمقاومة التيار الديني العدو الإيديولوجي التاريخي الذي لا يمكن التعايش معه بل يجب محقه واستئصاله.

أين الثقافة اليسارية في الأثناء؟ في ترتيب الأوليات اليسارية التونسية ليس الوطن والمواطن أولوية بل قتل الإسلامي رمزيا هو الأولى. يتكفل النظام بقتل جسدا ويتكفل اليساري بقتله رمزيا. أما النضال الاجتماعي من أجل الفقراء ومقاومة غطرسة السلطة وقمعها للحريات السياسية فموضوع تم تأجيله أو تعوميه في قصائد شعرية قليلة. هل يمكن بعد هذا لليساري أن يفتخر بمشروع ثقافي أصيل ومقاوم؟

حسان بن ثابت كان شاعرا
رغم ما سبق من توصيف فإن الإجابة هي نعم. اليساري يفكر في الثقافة ويؤمن بها ويستعملها مقارنة بالإسلامي الذي يتراجع إلى مناطق التحريم القاسية فيحرم نفسه ويحرّم على غيره متع الثقافة ولم يصل بعد إلى مرحلة التفكير في إنتاجها واستعمالها؛ بل يبرر بالنص الديني أن الثقافة ليست شاغلا فيثبت لليساري أن لا علاقة للإسلام بالثقافة.

شهدت فترة الثمانيات في تونس صراعا بين الإسلاميين واليسار وخاصة في الجامعة وقد التقط الإسلامي فكرة العمل الثقافي وتبناها وأنجز فيها بعض ما قلد فيه اليسار مع اجتهادات فقهية مستحدثة فكانت للإسلاميين فرقا موسيقية وشعراء وهو المتاح حينها. بعد الثورة بدأ الإسلاميون مترددين في الثقافة ويبدو أن ما يرد عليهم من الشرق من فتاوى التحريم قد أربكت الكثير منهم. فقد عاد النقاش مثلا إلى جواز استعمال الآلات الوترية أم الاكتفاء بالدفوف وآلات النفخ الخ. وهو نقاش حسم منذ 40 سنة ثم ارتد النقاش إلى الاكتفاء بأن حسان بن ثابت كان شاعر الرسول، وكفي الله المؤمنين شر الثقافة.

والحقيقة أن المفارقة تبدو شاسعة ففي زمن التصوير الرقمي المتطور في السينما وفي زمن الصورة الرباعية الأبعاد ما زال الإسلامي يجادل في حرمة الفنون، وهي المفارقة التي تجعل اليساري يسبقه ثقافيا بسنوات ضوئية.

إنك لتجد إسلاميا يكتب الرواية وآخر ينظم شعرا كثيرا وقد حاول البعض في السينما والمسرح لكن حتى اللحظة لم يخرج هذا من دائرة منافسة اليساري على سلعته ومنافسته في منطقة نفوذه والتي تنتهي غالبا بالرد عليه ضمن شاغل الصراع السياسي الذي يدور خارج الفن والثقافة. أي أنه محاولة رد على استئصال باستئصال مضاد؛ بما يعني إعادة إنتاج نفس المنظور الثقافي القائم على التنافي المتبادل.

لقد اختصر اليسار التونسي الثقافة في موضوع واحد فضيّع الثقافة والراجح عندي أنه لن يفلح من الخروج من هذه الزنقة الثقافية المغلقة وخاصة الجيل الحالي من مثقفي اليسار الذي ليس إلا هذا المشروع.

في المقابل، يوشك المشروع الإسلامي الثقافي أن يولد كردة فعل سطحية ضمن في السجال مع اليسار فيظل محشورا بدوره في حالة انفعالية غير بناءة فلا يخرج لتأسيس مشروع مختلف يقترح رؤية للعالم تتجاوز قصيدة بانت سعاد إلى كسر فعلي ونهائي لمقولة معاداة الدين للفن فتخرج المبدع من تردده أمام الفتوى الجامدة.

إن الثقافة حتى الآن ذريعة للسياسي سواء لدي اليساري الذي يزعم امتلاكها الحصري أو لدى الإسلامي الذي يحاول سرقتها منه وهذا سجال مميت للثقافة. ويبدو لي أن ميلاد الثقافة المطلوبة أو المنتظرة سيكون خارج هذا السجال.

لقد كان في هذا البلد ثقافة قبل أن تولد هذه التيارات السياسية القصيرة النظر. ولا مانع أن توجد ثقافة أخرى خارجهما. لم يكن هذا الشعب بلا هوية ثقافية قبل اليسار وقبل الإسلاميين لقد نحت هويته عبر زمن طويل ذوب فيه مكتسبات من مراجع مختلفة ونحت منها شخصيته التي يحرفها الآن اليسار إلى نمط حداثة مستورد (نموذج خارجي) ويحاول الإسلامي إعادة صوغها على نموذج من خارجها.

في المحلي واليومي والشعبي والريفي والبدوي تبلورت ثقافة تونسية متأصلة في اللغة العربية ولهجاتها وتعبيراتها العاطفية ولا يوجد مانع موضوعي لإعادة البحث في تلك الأصول للعثور على بداية جديدة. وما لم يفكر المبدعون خارج السجال يسار ضد إسلامي فإن الثقافة التونسية ستظل مكسورة القدمين تزحف تحت التنافي السياسي الذي أعدم السياسة والثقافة وجعل التونسيين سوقا مفتوحة للجنس والمخدرات.

________________

*أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه