د. نور الدين العلوي يكتب:المعارضة التونسية ملامحها وبرنامجها

د. نور الدين العلوي*

المشهد السياسي التونسي غير مستقر لكنه لا يتحرك. أو لعل التوصيف الأقرب أنه يراوح مكانه ويعيد إنتاج معارضة تشبه معارضة نظام بن علي بدون الإسلاميين والحكومة الأخيرة التي حظيت بشبه إجماع برلماني أشعرت المراقبين بأنها حكومة في طريق مفتوح لتفعل ما تشاء لذلك تبدو عديمة الحساسية لما يخرج حول مكوناتها من فضائح أخلاقية واعتداء على القانون والأعراف السائدة.
سنرى ملامح المعارضة(الجديدة أو المتجددة)  بدقة ونقرأ برامجها من اعتراضاتها على ما سيفعله الشاهد بالبلد حتى 2019 وإن كان كثير من المتشائمين قد حددوا عمر هذه الحكومة بستة أشهر.
خروج الإسلاميين  (النهضة) من موقع المعارض إلى شريك حكم.
يعتبر هذا الخروج حدثا مهما في المشهد السياسي لما بعد الثورة. فالنهضة منذ ولادتها تحت مسمى الاتجاه الإسلامي سنة 1981 حسبت على المعارضة الراديكالية  أو المتطرفة رغم سعيها إلى تقنين وضعها ضمن قانون الأحزاب السائد. وقد حرصت على البقاء ضمن الحكم في صيغته الجديدة رغم أنها لم تحتفظ بمكانتها كأول حزب سياسي.
هذا الخروج أربك المواقع التقليدية لأحزاب اليسار وشخصياته غير المتحزبة التي كانت تعمل في خدمة النظام من خارجه بقبولها دور المهماز في يد النظام يهدد بها الإسلاميين. انكسر هذا الدور الوظيفي ووجد اليسار نفسه يخرج بالتدريج من شريك حكم غير رسمي إلى معارض مركون على جنب. لذلك قبل جزء من هذا اليسار الالتحاق بحكومة الشاهد لسببين مترابطين أولهما كسر العزلة المتفاقمة التي تستفيد منها النهضة كحزب منظم ومنضبط مع شريك مشتت ومتصارع وثانيهما مواصلة الدور الوظيفي القديم من داخل الحكم أي عرض خدمات التضييق على الشريك النهضاوي وارهاقه في الإدارة. فمن بقي إذن ليقوم بدور المعارضة من خارج الحكم؟
يسار الجبهة الشعبية المتكلس
تبين من خلال مؤتمر حزب الوطد الموحد (اختصار لتسمية الوطنيين الديمقراطيين) وهو أحد الأحزاب المكونة للجبهة الشعبية أن الموقف السياسي للحزب يقوم على مواصلة بناء الفكر والوجود على معادة حزب النهضة. فقد لاحظ مراقبون من داخل المؤتمر أن النهضة كانت حاضرة بالغياب فلم تنطق جملة أو يقوم تدخل إلا على تأكيد مبدئية العداء والقطع الفكري والسياسي مع الإسلام السياسي. وهذا الموقف عمره أكثر من نصف قرن لم تؤثر فيه معطيات التاريخ والجغرافيا والفكر الإنساني الذي يتطور خارج هذا التنظيم ويقدم بدائل لالتقاء المختلفين.
والوطد لم يختلف في هذا مع حزب العمال الذي كان اسمه حزب العمال الشيوعي التونسي واسقط صفة الشيوعي من التسمية بعد الثورة. لذلك فإن البناء الفكري للجبهة ومشروعها يقوم بالأساس (شرط وجود) على معاداة النهضة خاصة والإسلاميين عامة وتصبح معارضة حزب النداء وحكومته وبرنامجها الليبرالي المتوحش مسألة ثانية يمكن التعامل معها بطريقة مختلفة تقوم على مبدأين أولا إعلان المعارضة الراديكالية وثانيا التسرب داخل الإدارة وتعتبر وزارة التربية الآن تحت قيادة جلول ناجي وهو أحد وجوه الوطد ميدان حرب على الإسلاميين داخلها وعلى البرامج التي تنفذ في النظام التعليمي. لذلك لا يمكن اعتبار الجبهة رغم تمثيلها البرلماني الحالي معارضة فعلية رغم أن الدستور يمنحها قيادة المعارضة رسميا.(الدستور التونسي ينص على وجوب وجود معارضة داخل البرلمان تتولى قصرا لجنة المالية في البرلمان).
يوجد بين أطياف اليسار توزيع أدوار محكم يعمل أساسا على تقليص نفوذ حزب النهضة ومنع انتشاره بعد أن عجز عن تجفيف منابعه. بين الذين دخلوا الحكومة (حزب المسار الشيوعي سابقا) مع جزء من اليسار النقابي وبين الذين بقوا في الجبهة الشعبية بحيث يمكن للشاهد أن يعمل مطمئنا لأن اليسار يخفف عنه وزن النهضة واشتراطاتها المحتملة داخل الحكومة. لم يعد كافيا أمام التونسيين أن تتظاهر بالمعارضة وتقسم الغنائم مع السلطة. كان هذا المسرح ممكنا أمام بن علي وبأمر منه.
شتات الأحزاب الديمقراطية الاجتماعية.
جيش مكسيكي بامتياز. جنرالاته أكثر من جنوده أو جنوده لا يطيعون جنرالاتهم إلا قليلا. الأسماء اللامعة عيونها على رئاسية 2019 ولا يرضون تنازل بعضهم للبعض الآخرلتقريب موقف سياسي معارض وديمقراطي. لقد فشلوا في الالتقاء في انتخابات 2014 وشتتوا من الأصوات ما يعادل  20الى 25 مقعدا برلمانيا ذهبت إلى الوطني الحر وآفاق وهي أحزاب صغيرة ظهرت فجأة بعد الثورة وتملكت المال الفاسد واشترت الأصوات لكنها استفادت كثيرا من شتات الأحزاب الديمقراطية.
لم يبق من حزب التكتل إلا اسم زعيمه مصطفي بن جعفر ولا نعلم إن كان سيصمد حتى 2019 وقد يكون بقاؤه مرتبطا بحياة بن جعفر نفسه.
أما نجيب الشابي وجه المعارضة التاريخي فلم يبق له في الحزب إلا مكتبه. وهو بصدد ترميم صورته بعد أن أطمعه الباجي برئاسة الحكومة الحالية ثم لم يمنحه حتى رئيس مصلحة والساحة تتعامل معه الآن بشفقة ارحموا عزيز قوم ذل  .
أنتج الرئيس المرزوقي بعد عام من الجهد الجدي في إعادة بناء حزب سياسي حزيبا صغيرا بمن حضر من حزبه القديم. حزيب يرتبط بالمرزوقي كالأصل التجاري ولو غادره لصار أثرا بعد عين.ويبدو المرزوقي الآن كزاهد  في صومعة يجر إلى الحياة السياسية  جرا فلا هو قطع معها بحسم ولا قادها بقوة.
حزب التيار الديمقراطي لمحمد عبو وزوجته جمع كتلة شبابية مختلطة خارج الإيديولوجيات الكلاسيكية وبقي من أحزاب العاصمة وصوت السيدة عبو العالي في البرلمان لا يرد إليها صداه بالانخراط في حزب زوجها. يقول الجميع بعيدا عنهما هو حزب عائلة يستعد فقط لتقديم  عبو لرئاسية 2019.
يهوّم العيادي وحركة وفاء في عالم من الطهورية السياسية تحولهم بالتدريج إلى حركة صوفية على غير طريقة محددة. والحزب يختفي من المشهد رغم أنه أول الأحزاب التي طرحت موضوع المحاسبة قبل المصالحة لكنه فشل في تسويقه على نطاق واسع.
أما حركة الشعب القومية الناصرية فلا تزال تنظم مراثي في القذافي وتعيش عقدة الأسد الممانع ولا سبيل إلى خروجها من شرنقة التفكير الكلياني (الانقلابي)رغم أنها ساهمت في آخر حوار حول حكومة الشاهد.
لماذا لا يلتقي هذا الطيف الواسع من الحزيبات في جبهة ديمقراطية اجتماعية؟
القواعد تريد اللقاء والزعامات ترفضه.
تكشف الحوارات الجارية بكثافة في المواقع الاجتماعية أن الصف الثاني من القيادات في هذه الأحزاب الصغيرة والكثير من قواعدها تريد أن تلتقي في جبهة أو عمل مشترك يكون هدفه تنظيم صف المعارضة الديمقراطي والعمل المشترك على تشريعية 2019 والبلديات قبل ذلك. لكن الحوارات جميعها تنتهي إلى مآزق وصراعات جانبية بعضها طفولي سخيف لأن القيادات التي سميت أغلبها أعلاه تضع عينها على مواقعها الشخصية والموقع الأجمل منها هو رئاسيات 2019. أو هي عاجزة عن تخيل أفق عمل جبهوي يتحرك في أفق 30 مقعدا برلمانيا يجعل منها رقما صعبا في كل المعادلات الحكومية القادمة.
أميل إلى قراءة تحرك هذه القيادات والشخصيات على أنها تفكر لنفسها لا للبلد. لذلك فإن المعارضة الحقيقة لحكومة الشاهد ولمن سيأتي بعده لم تتشكل على الأرض ولا تبدو أنها ستخرج من هذه القيادات ما لم تتواضع إلى حجمها الحالي وتعمل على تطوير أدائها وتضع نصب أعينها هدفا متوسط المدى مثل الفوز ببعض البلديات والتموقع السليم بكتلة متماسكة داخل البرلمان وليس مهما أن تشارك في الحكومات لكن الأهم منه أن تفرض صوتا عاليا في البرلمان صوت كتلة لا صوت أفراد .
حتى اللحظة الشاهد بحكومته الغريبة التكوين يفعل ما يريد ولا يهم أن كان بعض النواب الذين يسندون حكومته سيئي السمعة فصوتهم في البرلمان هو ما يحتاجه. لكن الشاهد  والمعارضة بكل أطيافها لا تريد أن تسمع الهدير الكامن في شارع مطعون في ثورته

_______________________

*استاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه