د. عصام عبد الشافي يكتب: ماذا فعلت أحداث سبتمبر؟!

وبدلا من أن تستخلص الولايات المتحدة من تلك الأحداث استحالة تحقيق الأمن المطلق، فإنها أصبحت أكثر إصرارا على تحقيق هذا الهدف وأكثر تركيزا.. يتبع.

د. عصام عبد الشافي*

مع وقوع أحداث 11 من سبتمبر/أيلول 2001، وفى ظل سيطرة تيارات اليمين الديني والسياسي على الإدارة الأمريكية، اتجه أنصار هذه التيارات إلى القول بأن ضعف القدرة الأمريكية على الحسم وضعف الرادع الأمريكي كان من بين العوامل المشجعة على هذه الهجمات، لأن هذا الضعف جعل الراديكاليين من معارضي الولايات المتحدة يظنون أنها قوة هشة. فقد تسامحت الولايات المتحدة مع عدد من التحديات لسياساتها، واتسم ردها على البعض الآخر بطبيعة رمزية محدودة القيمة. وهو ما كان مشجعاً للإرهاب وتحدى المصالح الأمريكية، وبات المطلوب استعادة السيطرة على زمام الأمور عبر رفع مستوى العقاب على من يهدد المصالح الأمريكية. وفى هذا الإطار اتسم رد الفعل الأمريكي الأولى لهجمات سبتمبر بالحدة، التى لخصها الرئيس الأمريكي جورد دبليو بوش بقوله: “لا حياد فى الحرب ضد الإرهاب”.
وفى إطار هذا التفسير، اختلفت الاستراتيجية الأمريكية، من حيث توجهاتها وقضاياها وأدواتها، بعد أحداث سبتمبر/أيلول 2001، عما كانت عليه، بعد هذه الأحداث، فقد أدت هذه الأحداث، إلى تغير كبير في الطريقة التي ترى بها الولايات المتحدة العالم، والتي تحدد على أساسها حلفاءها وأعداءها، حيث اتجهت الولايات المتحدة لتكون أكثر ارتباطاً بالعالم، وأن يكون لديها الإرادة السياسية لاستخدام القوة العسكرية ليس فقط للدفاع عن مصالحها الحيوية في الخارج، بل أيضا لنشر رسالتها والقيم التي تقوم عليها في العالم، أو إعادة صياغة العالم وفقا للمبادئ والمصالح الأمريكية، كما تم التأكيد على أن الولايات المتحدة في حاجة ماسة إلى حلفاء فى حربها ضد الإرهاب سواء لتقديم المساعدات العسكرية أو تقديم غطاء سياسي وإضفاء قدر من الشرعية على العمليات العسكرية الأمريكية.
لقد كان لأحداث 11 من سبتمبر/أيلول 2001، العديد من التأثيرات على إدارة بوش، من أهمها إصباغ شرعية شعبية على رئاسة بوش، بعد أن شكك الكثيرون فى صحة نجاحه وقانونيته، وذلك من خلال تحويله إلى مدافع عن أمن الشعب الأمريكي الذى تعرض لعدوان خارجي إرهابي لم يسبق له مثيل. وبهذا ارتفعت شعبيته إلى مستويات كبيرة، وهو يجند الشعب الأمريكي والعالم لشن حرب عالمية على الإرهاب، الأمر الذى عزز من قوة فريقه المشكل من عدة تيارات يمينية محافظة، مكنته من صوغ استراتيجية جديدة للولايات المتحدة تعكس أفكاره وأهدافه.
كذلك تم النظر للحرب ضد الإرهاب كأولوية للسياسة الأمريكية، ومع توسيع هذه الحرب لتشمل أطرافاً أخرى بعد إسقاط نظام طالبان فى أفغانستان، كالعراق وإيران والصومال واليمن وبعض المنظمات التي ألصقت بها الولايات المتحدة تهمة الإرهاب. وأعطت أحداث سبتمبر الفرصة للرئيس بوش ليخرج أسلحته من ترسانتها، ويعد للحرب على أفغانستان مؤيداً من غالبية دول العالم. فعادت الولايات المتحدة لتمتلك زمام المبادرة التي فقدتها منذ النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن العشرين.
وبدلا من أن تستخلص الولايات المتحدة من تلك الأحداث استحالة تحقيق الأمن المطلق، فإنها أصبحت أكثر إصرارا على تحقيق هذا الهدف، وأكثر تركيزا على تحقيق الأمن باعتباره الأولوية الأولى، وأصبح الإرهاب همها الأمني الأول. وطبقا للطريقة التي يفكر بها اليمين الأمريكي، الذى وجد في هذه الأحداث فرصة للترويج لأفكاره وسياساته، فإن هجمات 11 من سبتمبر/أيلول كانت دليلاً على إخفاق السياسات الليبرالية التي تبنتها إدارة الرئيس بل كلينتون خلال التسعينيات من القرن العشرين، في حماية الأمن والمصالح الأمريكية.
ونظراً لأن أحداث سبتمبر كشفت للإدارة الأمريكية استحالة تخليها عن مهمة صياغة نظام دولي جديد، فقد بدأت الإدارة تطور أفكارها فى هذا الاتجاه، وكان التركيز على الديمقراطية وحقوق الإنسان باعتبارهما الأساس لبناء العالم الجديد، والوسيلة الأساسية للتخفيف من التهديدات التي تتعرض لها الولايات المتحدة.
وربط اليمين الأمريكي بين تقديره لأهمية الديمقراطية من ناحية، والميل للاعتماد على القوة المسلحة من ناحية ثانية، انطلاقا من خبرة تاريخية للمجتمع الأمريكي، فالشعب الأمريكي يتسم بدرجة عالية من المثالية، ولكن خبرته التاريخية ليس فيها ما يفيد إمكانية نشر وترويج المثل التي يؤمن بها عن طريق غير طريق القوة. وأصبح مفكرو اليمين الأمريكي أكثر اعتقادا فى الارتباط بين الاستبداد الداخلي والسلوك الخارجي المتسم بالعدوانية، وأن الدول الديمقراطية لا تحارب بعضها، الأمر الذى يجعلهم قادرين على التوفيق بسهولة بين المناداة بالديمقراطية ومحاولة التدخل لفرضها بالقوة المسلحة.
ومن هنا أصبحت الإدارة الأمريكية بعد 11 من سبتمبر/أيلول أكثر ميلاً لإتباع سياسة خارجية نشطة. أسس لها مفكرو اليمين الأمريكي، رافضين الاتهامات التي توجه لهم بأن الاهتمام المبالغ فيه بالأوضاع السياسية الداخلية فى دول أخرى يعد تدخلا في شئونها الداخلية، ويعد نوعا من الإمبريالية الجديدة، مبررين ذلك بأن الولايات المتحدة عندما تفعل ذلك فإنها لا تتصرف بطريقة شاذة، ولكنها تفعل نفس ما فعلته القوى الكبرى عبر مراحل التاريخ.
وقد عززت أحداث سبتمبر والحرب الأمريكية ضد الإرهاب ميل اليمين الأمريكي للعمل المنفرد، ونجح أنصار هذا التيار فى ترسيخ مفهومين في التفكير الاستراتيجي الأمريكي؛ الأول، أن التهديد الأهم لأمن الولايات المتحدة يقع عند نقطة التقاطع بين الراديكالية والتقدم التكنولوجي، سواء كانت الراديكالية سمة لدولة أو جماعة سياسية، وسواء كانت التكنولوجيا الحديثة تحت تصرف أي منهما. والثاني، أن الولايات المتحدة لن تنتظر حتى تتعرض للهجوم لكى تقوم بالرد عليه، وإنما سيكون عليها أن تبادر بالهجوم بمجرد إدراكها للتهديد.
وأمام هذين المبدأين أصبحت الولايات المتحدة أكثر استعدادا للتدخل في صراعات في أماكن متفرقة من العالم، والتدخل في الشئون الداخلية للدول الأخرى لإعادة صياغة نظم الحكم فيها، سعياً نحو صياغة نظام دولي تحت هيمنتها. في إطار من تحويل الحرب ضد الإرهاب إلى المبدأ الناظم للسياسة الأمريكية في العالم.
وأصبح ضمان الأمن والمصالح يتطلبان، يتطلب وفق الرؤية الأمريكية، فرض القيم الأمريكية، وهو ما عبر عنه “وليم بيرنز” مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشئون الشرق الأوسط بقوله: “إن تحقيق الانفتاح السياسي ليس مجرد مسألة قيم أمريكية أو ضمان حقوق الإنسان الأساسية.. أنه أيضاً مسألة مصالح أمريكية واقعية”.
وفي ظل تداعيات سبتمبر 2001 لا يمكن دراسة التغيرات في السياسة الأمريكية ـ داخليًّا وخارجيًّا ـ بانفصال عن طبيعة إدراك هذه الأحداث، وتحديد مرتكبيها؛ وهل هذه الطبيعة تقتضي تغيرًا عاديًّا في السياسة الخارجية الأمريكية في نطاق العلاقة بين الاستمرارية والتغير اللذين تشهدهما سياسة أي دولة، أم أنها ولَّدت تغيرات تؤسس لتحول في الاستراتيجية العالمية للولايات المتحدة وللعالم برمّته، أو تكشف عن تحول جرت صياغته تدريجيًّا، وعايش العالم، بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001، مؤشراته وتجلياته.
وبعد 14 عاماً من هذه الأحداث وتعاقب إدارتين جمهورية (بوش 2001-2008) وديمقراطية (أوباما 2009-2015) على الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن من أهم الأمور التي يجب التأكيد عليها أن التيارين (الجمهوري والديمقراطي) كانا سيختلفان فقط حول سبل إدارة الاستراتيجية العالمية الحديثة وأدواتها، وليس حول جوهرها ومنطقها، فالسياسة الأمريكية العالمية دخلت تحولاً سواء كان يديرها ديمقراطيون أو جمهوريون. فالمرحلة التي يعيشها العالم الآن وتشهدها الاستراتيجية الأمريكية العالمية هي مرحلة الأحادية والهيمنة الأمريكية، ولكنها “المتوحشة” المتخلية عن كل قيم وأبعاد النموذج الأمريكي “الإيجابية”. والمؤشرات على ذلك عديدة، منها الحرب ضد ما يسمى بالإرهاب كأولوية للسياسة الخارجية، وتوسيع هذه الحرب، وإعادة فك الارتباط بالعالم، وتوثيق العلاقة بالحلفاء في إطار المصلحة الأمريكية.
إن الخطورة الجديدة في تقاليد السياسة الخارجية الأمريكية، بعد 14 عاماً من أحداث سبتمبر 2001، تبرز في التداخل بين أبعاد القوة العسكرية وأبعاد المنظومة القيمية، حيث لم تعد الأخيرة قاصرة علي الأيدولوجيا فقط كما حدث خلال الحرب الباردة، ولكن أضحت تشمل الأبعاد الثقافية الحضارية، وأخذت الولايات المتحدة تستحضر الأساليب اللازمة لحمايتها، فردية كانت أم جماعية، عسكرية كانت أم ثقافية.
ومن هنا يمكن القول أن أحداث سبتمبر 2001، شكلت بالفعل بداية حقبة جديدة فى العلاقات الدولية، سِمْتُهاَ الأساسية تقلُّصُ قوة وهيمنة النموذج الغربي في عالم تزايدت بؤر التوتر فيه، وظهرت تحديات أمنية لا تتوفر للقوة العظمى وسائل فعالة لاحتوائها، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية فإن هذه الأحداث لم تكن نقمة على السياسات الغربية، ولكن تم التعامل معها كفرصة طال توقعها للقطب الدولي المهيمن للقضاء على البقية الباقية من المحتجين والمعترضين على التفرد الأمريكي.
ومن ناحية ثالثة فإنه في إطار هذه التحولات كان المتغير الأهم، هو تحول الإسلام وعالمه من أحد معايير ومفاتيح الخريطة الاستراتيجية العالمية إلى محور هذه الخريطة، بعد أن وصل أثره إلى قلب المنظومة الدولية سياسياً واقتصادياً.
ومع هذا التحول أصبح احتواء الإسلام، هدفاً محورياً في الاستراتيجية الأمريكية الجديدة، وخاصة مع حضور العامل الثقافي بقوة في هذه الاستراتيجية، ممثلاً في ضرورة تصدير النموذج الحضاري الغربي ونمط الحياة الأمريكية كشرط لحماية مصالح الولايات المتحدة في العالم.

________________________

*باحث مصري في العلوم السياسية 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه