دولة مبارك بين حكم الأب وحكم الديكتاتور

لم يحاسب حين أدخل البذور المسرطنة علي يد وزير زراعته يوسف والي، وحين استبدل البذورالمصرية بأخرى اسرائيلية، فأصبحت مصر من أكثر الدول إصابة بالسرطان والالتهاب الكبدي الوبائي

 

تباينت ردود الفعل حول وفاة الرئيس المصري المخلوع محمد حسني مبارك بين من كال له الاتهامات وصب عليه اللعنات وأوكل كل ما يحدث بالبلاد اليوم لما غرسه هو من فساد في كل القطاعات ، وأنه السبب في تمكين الجيش من رقاب الشعب بتجريفه لكل مظاهر الحياة السياسية في مصر ومحاربته لكل معارضة حقيقية ، ليحتكر الحزب الوطني العمل السياسي ، ثم تشكيله لجنة السياسات التي أدارها نجله جمال مبارك لتصفية كل مخالفيه ، وصنع إرهابا دفع ثمنه أبرياء من المسلمين والمسيحيين ، بين هؤلاء وبين من اضطرهم النظام الحالي للمقارنة بين حكم مبارك والحكم الحالي والضنك الذي يعيشه الناس في كل فئات المجتمع وعلى كل المستويات ، شباب وأولياء أمور طلاب ومرضي وفقراء وموظفون وسياسيون وأصحاب الرأي المعتقل منهم اليوم أكثر من ستين ألفا ، وحالة الطرق المميتة وانتهاء الطبقة الوسطي ، كل تلك الأمور أجبرت البعض أن يدعو له بالرحمة ، وكأنه مقدرا على الناس في تلك البلاد أن يختاروا بين السيئ والأسوأ ، وأن يرسلوا دموعهم على من سمح لهم ببعض الفتات يقتاتوا منه ، ليبقيهم على قيد الحياة

حكم الأب والتأصيل للفساد في مصر

ليس هنا مجال لسرد جرائم نظام مبارك لمدة ثلاثين عاما حكم  فيها مصر بالحديد والنار، واستطاع فيها أن يقوم بعملية تجريف لكل خصب بداية من خصوبة الأرض التي قضي على تميزها في إنتاج محاصيل حيوية كالقمح والأرز مما تقام عليه حياة الناس عبر التاريخ ، وكانت دعامة اقتصادية كبرى حتى في عصور الاستعمار لتحتل  مصاف الدول الدائنة لغيرها ، وتضعها على قائمة الدول المصدرة لمحاصيل مثل القطن المصري طويل التيلة والخضراوات والفواكه المصرية ، ومرورا بتجريف خصوبة العقل المصري الذي اضطر للهجرة ليثبت نجاحه وعبقريته في الخارج، ومرورا كذلك بتجريف مستقبل التقدم الاقتصادي ووضع ثروة البلاد في يد عصابة تلتف حول الرئيس وأسرته

وأشير هنا لمصطلح لم يستخدم في حكم سياسي إلا وقد ارتبط بالفساد والقهر والعنف  ، أبدعه الرئيس الأسبق محمد أنور السادات حين نصب نفسه ربا للعائلة المصرية، وحكم باسم الأبوة ، ثم رسخ لهذا المعني مبارك حين ظهرت أصوات تطالب بضرورة القيام بعملية إصلاح داخلي للبلاد بعد إطلاق القبضة الأمنية للداخلية ، فمبارك أب للمصريين ، مما يعني أنه لا يجب أن يسأل ، فالأب له التقدير والاحترام والطاعة وعدم المساءلة ولو أخطأ ، والمعارضة له توصم بسوء الأدب والعقوق للحاكم الوالد ، ولعب الإعلام المصري في عهده على تلك النغمة التي وضعت الكثيرين تحت وطأة الحساب حين يعبرون عن استيائهم من الحكم.

فلم يحاسب يوم غرق العبارة السلام بمن عليها من الهاربين من نير الفقر في البلاد للعمل بدول الخليج، بينما يشاهد مباراة كرة قدم هو وزوجته، لأنه من العيب محاسبة الأب

ولم يحاسب بعد احتراق قطار الصعيد حيث تجاوز الضحايا أكثر من ألف مواطن، غير حوادث القطارات المتكررة وضحاياها

ولم يحاسب حين أدخل البذور المسرطنة علي يد وزير زراعته يوسف والي، وحين استبدل البذور المصرية بأخرى اسرائيلية، فأصبحت مصر من أكثر الدول إصابة بالسرطان والالتهاب الكبدي الوبائي

ولم يحاسب حين جرف الحياة السياسية وقمع المعارضين لتشكل قضايا وهمية باسم سلسبيل على سبيل المثال ليحكم فيها بأحكام جائرة بين الخمس والعشر سنوات سجنا، وقضية مهندسين ضد الحراسة وغيرها من القضايا العسكرية المشينة

ولم يحاسب حين حكم بالطوارئ طوال ثلاثين سنة هي فترة حكمه، وليسن قانونًا بالحبس والغرامة لمن ينتقد الرئيس أو أداءه، وظلت المطالبة بالإصلاح لا تتعدى الحديث عن فساد الوزراء، ولا ترقى أبدا لرأس النظام ولم يجرؤ على المطالبة برحيله لأول مرة إلا حركة كفاية التي نشأت في السنوات الأخيرة لحكمه، وأعلنتها لأول مرة لا للتوريث ولا للتمديد.

ولم يحاسب حين بدأ في تفكيك القطاع العام، وتسريح آلاف العمال، وتشريد آلاف الأسر بخصخصته وبيعه بالخسارة تنفيذا لأوامر صندوق النقد الدولي

لم يحاسب مبارك الذي حكم تحت شعار الأبوة ، ورسخ لها ، وقنن بذلك للفساد الذي قام بحراسته ، وتحت رعايته وحمايته ليضع نظاما جديدا تتقبله الفئة المهمشة من الشعب ، ويرفضه الشباب الذين شقوا عصا الطاعة ووعوا أن الحاكم ليس أبا ، وإنما موظف يعمل لدى الشعب يسهر على راحته ، ويقضي الوقت في خدمته ، إذا أخطأ يحاسب ، وإذا أحسن يترك ليؤدي مهمته في وقت معلوم وحدود بمدة أو مدتين يخضع خلالها للرقابة الصارمة من المؤسسات الشعبية المنتخبة والمختارة بحرية كاملة، وعى الشباب فثاروا ، وخرجوا ليعلنوا محاسبتهم للحاكم العامل لديهم ، وليس الأب المسؤول عنهم، ومكثوا في الميادين ليصنعوا ثورة من أعظم الثورات ، لم يجد الديكتاتور بدا من أن ينحني لها، ويتنحى عن الحكم في أول خضوع له كحاكم لشعبه ، ليرحل بعدما غرس في أذهاب الكثيرين فرضية عدم محاسبة الحاكم ، بل وهيمنته على رقاب الخلق من خلفه

بين الرئيس الشهيد والرئيس المخلوع

وكرد فعل متوقع من النظام المصري على وفاة مبارك بإعلان الحداد الرسمي لمدة ثلاثة أيام ، وتنظيم جنازة عسكرية للرئيس المحسوب على الحكم العسكري ، اختلفت ردود الفعل الغاضبة على وسائل التواصل الاجتماعي والمقارنة بين موقف الدولة من جنازة الرئيس الشهيد محمد مرسي الذي منعت عنه الزيارة لسنوات ومنع عنه الدواء والطعام الآدمي داخل سجن انفرادي غير مسموح له بلقاء محاميه ، تم تركه ليموت عمدا دون العرض على طبيب بينما كان ملقى علي الأرض في قاعة المحكمة دون السماح للمعتقلين الأطباء بمناظرته ، وهو الذي كان يحاكم سياسيا ، وبين مبارك الذي كان يعالج رغم محاكمته في جرائم مخلة بالشرف ، اختلاس وفساد وسرقة للمال العام ، ثم هو يعالج معززا مكرما في المستشفيات العسكرية ، وشخصيا لا أتعجب من موقف الدولة تجاه موت الرئيسين فالنظام اليوم لا يمثل الشعب ، ولم يأتِ بخيار شعبي ، بل أتى بانقلاب مكتمل الأركان شهد عليه العالم أجمع ، وعلى أشلاء آلاف المصريين برابعة والنهضة ثم ميادين الثورة فيما بعد ، ثم بالمعتقلات عمدا ، لأنه بالأساس يعتبر نفسه امتدادا لحكم مبارك العسكري ، وفي الوقت الذي يهاجم فيه ثورة يناير في كل مناسبة ، ويهدد ويتوعد بأنها لن تعود أبدا ، وأنه لن يسمح لأحد بمجرد التفكير في إعادة الحدث ، فكان جديرا بأن يكرم الرئيس الذي غرس الفساد الذي نحصده اليوم ، ورسخ وشرع لحكم من لا يحاسبون ، وجديرا كذلك أن يتعامل بانتقام شرس فلا يسمح بجنازة لائقة لرئيس أتى  بإرادة شعبية ثورية ، بحرية لم تشهدها البلاد عبر تاريخها ، كان حريا بالنظام أن ينتهج سياسة الانتقام للشعب وللثورة عبر من قامت عليه ، ومن أتت به ، فتنكس الأعلام من أجل هذا ، ويدفن سرا من نادى بالحرية والاكتفاء بالغذاء والدواء والسلاح ، ووضع الجيش في ثكناته ، وطالب بفتح ميزانية الجيش لتناقش في المجالس النيابية .

 إن رد الفعل تجاه الرئيسين كان طبيعيا على مستوى النظام، لكنه في الحقيقة لم يكن طبيعيا على المستوي الشعبي، ومن ترحموا على مبارك ممن ثاروا عليه في يناير.

 لقد ضرب النظام الانقلابي في الشعب وأوجع حتى ترحموا على من ثاروا عليه رغم طغيانه وفساده الذي يحصدونه اليوم.

 لقد مات مبارك رغم جبروته الممتد حتى اليوم فهل يعتبر الطغاة من بعده ويفكرون في اليوم الذي تختلف فيه شعوبهم على جواز الترحم عليه من الأساس؟

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه