دولة الأب القائد

 

“إنّما الأيام دُولٌ” مَثلٌ تتناقله ألسنتنا للتعبير عن عدم دوام الحال على ما هو عليه، فالدّولة فعلُ انتقالٍ من حال إلى حال. وهي كيانٌ يرتكز على ثلاثة أعمدة “البقعة الجغرافية، الشّعب، والحكومة”. وتأتي أهمية الحكومة من خلال وظيفتها في تنظيم العلاقات بين أفراد الشّعب، والعلاقة بين الشّعب والجغرافيا.

عالمياً تعدّدت أشكال الحكومات لكنّها في وطننا العربي أخذت شكل الهيئة المتسلطة التي تشرعن العنف السّلطوي وتحتكره وتمارسه على الشّعب بأشكال مختلفة. لقد منحتنا القبيلة بعضاً من إرثها فحافظت الحكومات عليه لما يحقق لها من سطوة أبوية تُمركز السّلطة بيد الرئيس تماماً كما كانت بيد شيخ القبيلة. وقد لجأ الحكّام إلى أساليب مناسبة للعصر بتحويل مفهوم السّلطة المطلقة بأمر الدين إلى مفهوم الأبوة عن طريق استخدام أقلام الكتاب وحناجر المغنين لترسيخ تلك المفاهيم في لاوعي الشّعب وجعلها مقبولة بطريقة طوعية لا إكراه فيها.

برزت تلك الطريقة بوضوح حاد في عهد جمال عبد الناصر الذي وعى جيداً دور الفن في التأثير على الجماهير، فقام بعسكرته. لا أستطيع الجزم بمدى تدخل جمال عبد الناصر شخصياً في توجيه الإعلام إلى دعمه بطريقة جعلت الشعب يقدّس شخصه ولم يقتصر ذلك على مصر فقط بل امتدّ إلى سوريا وباقي الدول العربية بدرجات مختلفة.

من يستمع إلى الأغاني التي غنّاها عبد الحليم وأم كلثوم وعبد الوهاب وباقي المطربين في ذلك العصر لجمال عبد الناصر يدرك أين يكمن السحر المخدر للشعوب. ويدرك إلى أي مدى كان الناس يستسلمون دون وعي منهم لفكرة الراعي والقطيع.

أغنية تساوي كتاب:

“يا مرحبا بَك يا جمال” أغنية غنّاها فريد الأطرش بصحبة سعاد محمد وفايدة كامل ومطربة اسمها فجر. تُعدُّ هذه الأغنية نموذجاً واضحاً في ترسيخ سطوة الأب وتنزيهه عن الأخطاء فقد استخدمت الأغنية ليس لتبرير أخطاء الذات الأبوية وحسب وإنّما تصويرها على أنّها إنجازات تحسب لهذا الأب!  يقول فريد أو كاتب كلمات الأغنية:

(الشعب عيلة كبيرة وحّدها الجهاد) فوجود الجيش المصري في اليمن هو جهاد وهو ضرورة لتوحيد الأطراف المتناقضة والمتصارعة! وبذلك يصبح الشعب أداة في يد السلطة لتحقيق تلك الوحدة العربية التي كشفت زيفها ثورات الربيع العربي.

(الأب رب الأسرة صحوة جيل عنيد بيوجه الشباب لطلعة يوم جديد، ثائر بيبني أسرته عارف طريقه وسكته، والمجتمع في خدمته من غير تحكم رأس مال!) هكذا تقرر الأغنية التي يصفق لها ضحاياها من الجماهير أنّ الزعيم أب والشعب أبناء وهم خدم له، بعيداً عن نظريات الفكر التي تتحدّث عن تحكّم رأس المال، يمكن وصف الأغنية بأنّها منشور سياسي أو تلخيص لكتاب سياسي لكنّ تأثير الأغنية يطال ملايين البشر بينما الكتاب أو المنشور يقتصر تأثيره على بضعة آلاف أو مئات أحياناً من المثقفين في أنحاء متفرقة من البلاد.

وفي مقطع آخر:

(والابن زهر العمر صانع معجزات، باسم العروبة وعوض العمر اللي فات، تلمح ببغداد فرحته تسمع في صنعا خطوته). لم يقتصر المقطع على الترويج للتدخل العسكري أيام عبد الناصر في اليمن، وإنّما أراد أيضاً أن يوحي للشعب بأنّ صنع المعجزات لا يحتاج سوى “للبنوة” أن تكون ابناً لذاك الأب يعني أنّ بإمكانك صنع معجزة!

نجد التأسيس المقصود لتلك الهيمنة يبدأ بترسيخ فكرة الأسرة بدل الدولة، وإضفاء صفة الأبوة على الرئيس (فهو القائد والأب) وبذلك يصبح نموذج الحكم نموذجاً أسرياً يقوم على السّيطرة الكاملة للأب والطاعة العمياء للأولاد. الولد لا يستطيع الاحتجاج على أيّ قرار يتخذه الأب فهو ما يزال بحاجته “مادياً” خاصة قبل أن يصبح منتجاً، وإن فكّر بالاستقلال بعد أن يصبح عاملاً له دخل يستطيع الاتكاء عليه تبدأ محاربته ووصفه بالعقوق وقد تنتهي بحرمان الابن من الميراث وقد يجد نفسه تحت العلاج في مصحات العلاج النفسي والتي تسمى في بلادنا سجوناً!

الأب القائد حافظ الأسد:

حاول حافظ الأسد منذ بداية عهده بالسلطة أن يكرس مفهوم الأب، لكنّه لم يكتفِ بأبوة الأسرة وإنّما انطلق به إلى فضاءات أرحب فصار الأب رباً ولذلك عزل نفسه في حالة من الغموض، وفي الوقت ذاته زرع الخوف بطريقة سرطانية في مفاصل المكونات البشرية للشّعب السّوري ثمّ أكثر من الصّور والتّماثيل وزرعها في كلِّ مكان كي تبقى الرهبة في نفوس البشر من هذا الغامض القادر على السّحق في أيّ لحظة.

لكنّه لم يحظَ بماكينة إعلامية مؤثرة كما حظي عبد الناصر فلم تتخطَ الأغاني التي تمجده حدود سوريا وحتّى لم تشمل سوريا كلّها فلم يكن يسمعها معظم السوريين سوى مرغمين من خلال الإذاعة والتلفزيون الرسمي.. واقتصرت على مطربين لا تأثير لهم عاشوا وماتوا من دون أن يسمعهم أحد ومن بقي حياً منهم اندثر عند ظهور الفضائيات. وبقي الأسد في حسرة أن يغني له الكبار وأن يمتدحه الكبار لكنّهم لم يفعلوا حتى كتب الشّاعر العراقي “الجواهري” قصيدة غنّتها ميادة الحناوي.
استخدم الإعلام في عهد حافظ الأسد لتضخيم الذات الأبوية، فأسبغ على شخصية الرئيس العديد من الألقاب التي تجعله دائماً في الصّفّ الأوّل، لكنّ اللقب الأكثر استخداماً كان لقب “الأب القائد”.

الأغنية القاتلة جواز مرور:

فرضت المرحلة الحالية تغيير لغة الخطاب على الرغم من أنّ الدواعش والفصائل مجتمعة تحرّم الغناء إلا أنّهم أدركوا أهمية الأغنية ومدى تأثيرها على أدمغة الشباب المقاتل فاستخدموها للتحريض على القتال واتبعوا أسلوباً خاصاً في اللحن واختيار الكلمات.. فلم يكن الأمر عشوائياً بل دُرِس بطريقة ذكية قامت على ثلاث ركائز (اللغة الفصحى، اللحن المأخوذ من الأناشيد الدينية، الاتكاء على إرث شعري لشخصيات رمزية). فعبارات اللغة العربية الفصحى الجزلة المستخدمة في الأغاني والموجهة إلى شباب غُرٍ غير مثقف وأمي أحياناً تشعره بمدى ضآلته فكرياً وتجعله يسلّم بفكرة التراتبية التي يهيمن فيها المنظّرون للفكر الإسلامي مهما كانت أهدافها.

سأذكر مقطعاً من أغنية واحدة توضح إمكانية تحوّل الكلمة إلى أداة قتل عن طريق التحريض.

(تقدم أخيا لسود الجبال لرمل الفيافي للقيا الرجال/ تقدم إلى الموت أنت الأبي وأنت الكبير ليث القتال..) (هيا ارتدِ ناسفاً وانتفض وفجّر فنعم الردى والمآل) بهذه الكلمات التي يترنم بها صغار المقاتلين يتم تصنيع المزيد من الأدرينالين في أجسادهم ليغدو على مسافة قصيرة جداً من التشظي بحزام ناسف، وإذا شعر أحدهم بفتور العزيمة قليلاً يتم حقنه سريعاً بالمنجز الشعري لرمز الفكر الأوّل سيد قطب الذي يُعدُّ قدوة بالنسبة للمقاتلين من حيث الفكر والصمود، واختيار قصيدة له لتلحن وتغنى اختيار يدل على ذكاء (أخي هل تراك سئمت الكفاح، وألقيت عن كاهليك السلاح/ فمن للضحايا يواسي الجراح، ويرفع راياتها من جديد). عندئذ فقط يعاود هذا المقاتل الصّغير حالة الغضب فيرى كلّ البشر الذين يشير عليهم الأمير مجرد كفرة يجب قتلهم.

الأغاني نفسها يمكنها أن تنقذ شخصاً من المحاسبة أو التفتيش..

برفقة ابني كنّا في طريقنا إلى إدلب ومنها إلى سراقب، وجدته يضع قرصاً مدمجاً في مسجلة السّيارة وحين عاتبته لأنّي لا أسمع هذه الأغاني قال لي: “ماما هذه جواز المرور على الحواجز، انتظري وسترين”.

حين توقفت السّيارة وأنزل زجاج النّافذة ليتحدث مع المقاتل المرابط على الحاجز، أومأ له بيده ليكمل الطريق قائلاً: “الله معك يا شيخ”. كانت الأغنية جواز مرور.

لا أعرف وقتها إن كان عليّ أن أضحك أم أبكي، التبست مشاعري، ابني “شيخ”! وهذا اللفظ رتبة يستخدمها المجاهدون في الفصائل المسلحة على اختلاف انتماءاتهم وليست وصفاً لشخص المخاطب. 

تحتاج أمتنا إلى إعادة نظر في منظومة الدولة بالكامل، وفي المفاهيم المؤسسة لها، ليستعيد الرئيس وظيفته الأساسية بمدّة رئاسية يقرّرها القانون ولا تمتدّ إلى الأبد!

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه