دموع الحكام ودموع التماسيح

أتذكر من النماذج البشرية ما اقترب من تعبير دموع التماسيح، وسأذكر ما أسعفتني به ذاكراتي، ولكل قارئ من قراء المقال الحق في أن يسقط المعنى على من يراه.

دعونا من السياسة ومخاطرها وتوابعها المزعجة، سأتحدث في مقالي اليوم عن ظاهرة بيولوجية وهي دموع التماسيح.

التماسيح تذرف الدموع وهي تلتهم فريستها، وهي ظاهرة استقبلها العلماء بتفسير علمي استند على أن التمساح يحرك فمه بقوة أثناء التهام ضحيته؛ فيتحرك الهواء في الجيوب الأنفية ليصب الدموع في عيونه .. 

أما البشر فقد كان لهم تفسير مختلف يستند إلى أن التمساح يذرف الدموع في استضعاف ومسكنة ليخدع ضحيته ويبث في نفسها الطمأنينة والسكون فينقض عليها بسهولة، ولهذا ارتبط تعبير دموع التماسيح بأي شخص مخادع يذرف الدموع ويتمسكن ويبكي ليظهر وجها ودودا مغايرا لأفعاله الوحشية، تماما مثل اللص الذي تكثر مواعظه عن الشرف والأمانة.
ويبدو أنني سأخرج من حديث البيولوجي إلى الواقع الإنساني، فالواقع قدر مفروض على البشر.
أتذكر من النماذج البشرية ما اقترب من تعبير دموع التماسيح، وسأذكر ما أسعفتني به ذاكراتي، ولكل قارئ من قراء المقال الحق في أن يسقط المعنى على من يراه؛ فأنا لست من أصحاب الذاكرة الحديدية، ولا الملاحظة القوية.

دموع نيرون ويزيد!

تقول الأسطورة إن الإمبراطور الروماني نيرون أحرق روما، وظلت النيران مشتعلة فيها خمسة أيام وهو يغني ملحمة من أسطورة يونانية وعيناه مغرورقة بالدموع، ومن قبلها قتل أمه وزوجته ومُعلمه، وبعد كل جريمة يرتكبها كان يبكي، إلا أن الشعب الروماني لم ينخدع بدموع “نيرون” فعزله وحكم عليه بالموت ضربا بالعصي.

ومن روما أيضا يذكرنا “شكسبير” بشخصية “بروتس” الصديق المقرب للإمبراطور الروماني يوليوس قيصر والذي اشترك في مؤامرة لقتله في خسة لم يغفلها التاريخ أصابت قيصر بخيبة أمل وصدمة من صديقه، عبر عنها شكسبير في مسرحيته بعبارة جاءت على لسان يوليوس قيصر، وهو يحتضر: “حتى أنت يا بروتس”، ومات قيصر وبكاه بروتس أشد البكاء بدموع مثل دموع التماسيح أثناء افتراس ضحاياها.

حارب يزيد بن معاوية “الحسين” ابن الإمام علي، وحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسبب الخلافة، ولكنه بعد قتل الحسين بكاه يزيد أشد البكاء.

إيفان الرابع أو إيفان الرهيب قيصر روسيا في النصف الأول من القرن السادس عشر، كان دمويا قاتلا محترفا لفنون التعذيب وإراقة الدماء، قتل ابنه وجلس بجانبه وهو يحتضر يبكي بحرارة وألم.
 

    دموع بلا رحمة

قال أحد الحكماء: “لا تنظر إلى ما يرتسم على الوجوه ولا تستمع إلى ما تقوله الألسن ولا تلتفت إلى الدموع فكل هذا هو جلد الإنسان، والإنسان يغير جلده كل يوم ولكن أبحث عما هو تحت الجلد”.
ليست كل الدموع دموع تماسيح، وليست كل الدموع دموع إنسانية مرهفة .. الحس والفرق دائما تعرفة بالمحتوى والسياسات والنتائج وخاصة لو كانت دموع حاكم يذرفها بكثرة مبالغ فيها أمام شعبه.

دموع عبد الناصر وصدام

بكى الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أثناء خطاب التنحي الذي ألقاه أمام الشعب المصري عقب هزيمة مصر أمام إسرائيل عام 1967..
ودارت التساؤلات عن دلائل هذه الدموع، هل هي وجع الهزيمة والإحساس بالمسؤولية، وتعبير عن إدراك واعتراف بأخطاء ارتكبها الباكي وهو يحكم الوطن بالحديد والنار والسجون؟
أم كان بكاؤه بهدف استدرار عطف شعب غاضب على قيادته التي غيبته سنوات تحت مظلة وهم القوة والنصر الزائف؟
وبعد أن ضعف الشعب أمام دموع الزعيم، وخرج في مظاهرات طالبه فيه بسحب خطاب التنحي والاستمرار في حكم البلاد، جاءت الإجابة عن حقيقة دموع الزعيم سريعا في عام 1968 ، عندما فتحت السجون أبوابها مرة أخرى أمام المعارضين للنظام وأمام الطلاب الغاضبين من نتائج محاكمات الضباط المسؤولين عن الهزيمة.

كان صدام حسين دمويا عنيفا قاسيا لا تهزه مشاهد القتل الجماعي أو الفردي طالما هو يجدها مبررا لاستقرار الوطن، بل روى البعض أنه كان يقوم بقتل خصومة بيده ..
وعندما قام بغزو الكويت دفع جيشة إلى الهجوم بقسوة ووحشية على دولة هو يعلم مدى ضعفها العسكري، وارتكب جنوده الكثير من الجرائم البشعة آنذاك، ورغم ذلك بكى صدام حسين في خطاب أمام شعبه عندما تحدث عن الشهداء، بكى برقة لا تتلاءم مع شخصيته الدموية فبدأ المشهد وكأنه عرض تمثيلي يقدمه ممثل فاشل، إنها دموع التماسيح.

 

دموع تاتشر

بعد انتهاء مدة خدمتها كرئيسة وزراء بريطانيا، وأثناء مغادرتها منزل رئيس الوزراء بكت مارغريت تاتشر التي لقبها الشعب البريطاني بالمرأة الحديدية نظرا لقسوتها الشديدة وخاصة أثناء مواجهتها للثوار الأيرلنديين، وموقفها المتشدد جدا في رفض مطالب المعتقلين الأيرالندين بمعاملتهم كمساجين سياسيين .. 
مما أدى إلى دخولهم إضراب عن الطعام مدة طويلة أدى إلى وفاة عشرة ثوار دون أن يهتز لها جفن رغم ثورة معظم شعوب العالم ضد موقفها وتشددها وعدالة مطالب الثوار الأيرلنديين .. 
واستمرت في تشددها بعد موت المضرب الأول بوبي ساندوز ( 27 عاما) حتى مات بعده تسعة آخرين، وكان الرد عليها أن ترشح “ساندوز”، وهو في السجن أثناء إضرابه، وقبل موته بشهر واحد نجح وأصبح عضو برلمان عن دائرة فيرمانا وجنوب تيرون، ولهذا كانت دموع تاتشر الحديدية أقرب لدموع التماسيح أو هي في الواقع حزنا على السلطة التي مارستها بكل عشق وجبروت.
 

  دموع الكاوبوي الأمريكي

الرؤساء الأمريكان أكثر رؤساء العالم في فنون الخطاب العاطفي لشعوبهم وشعوب العالم، على عكس مضمون توجهاتهم السياسية التنفيذية.
بكى بيل كلينتون بشدة أثناء استماعه لخطاب رجل توفيت زوجته بسرطان المعدة لعدم ذهابها للطبيب بسبب وظيفته غير المؤمن عليها، فهل كانت دموع كلينتون تأثرا بمأساة الرجل وزوجته أم كانت دموع تماسيح يداري به فشله في تنفيذ مشروع الضمان الاجتماعي الذي عهد به لزوجته هيلاري وفشلت تماما في تنفيذه؟
أما باراك أوباما أكثر رؤساء أمريكا لعبا على وتر الإنسانيات والعواطف فقد سالت دموعه أثناء خطاب كان يلقيه في البيت الأبيض، وتعرض لضحايا الإرهاب بأسلحة أمريكية ..
وفي نفس الوقت أشار ويليام هارتونج مدير التسليح ومشروع الأمن في مركز السياسة الدولية ومؤلف كتاب “أنبياء الحرب” إلى أن حجم صفقات السلاح الكبرى التي تم إبرامها في عهد أوباما في السنوات الخمس الأولى من حكمه فاق حجم الصفقات في فترة حكم الرئيس بوش الابن والتي استمرت 8 سنوات بما يقرب من 30 مليار دولار .. 
وقال «هارتونج» إنه تعجب كثيرا عندما علم أن أوباما باع هذا الكم الكبير من الأسلحة، علما بأن هناك صفقات وصلت لأرقام قياسية مع السعوديين ؛ حيث كانوا أكبر مستوردي الطائرات الهليكوبتر المقاتلة من طراز أباتشي والقنابل والبنادق ما يعني أنهم اشتروا ترسانة كاملة في السنوات القليلة الماضية ..
وكشف أيضا عن أن السلاح الأمريكي أيضا لا يصل إلى الأنظمة الديكتاتورية فقط ولكن يصل إلى دول مليئة بالفوضى مثل اليمن والعراق وسوريا، الأمر الذي سمح إلى أن يصل السلاح إلى أيدي المسلحين والمتطرفين!
وهنا لا نستطيع الجزم هل كانت دموع أوباما دموعا إنسانية على ضحايا الأسلحة الأمريكية أم كانت دموع تماسيح لإخفاء معالم جرائمة الناجمة عن الإفراط في نشر الأسلحة في المنطقة العربية ودعم الإرهاب والأنظمة الديكتاتورية مقابل أموال طائلة تنهال على الولايات المتحدة من أقوات الشعوب العربية.

 

  التعاطف مع الأعداء

أما الرئيس الفلسطيني محمود عباس فقد بكى أثناء مشاركته في تشييع جنازة الرئيس السابق للكيان الصهيوني وهو ما أذهل العالم وخاصة أنه كان في وقت ذكرى استشهاد الطفل الفلسطيني محمد الدرة، الذي أغتاله الجيش الإسرائيلي في سبتمبر/أيلول عام 2009، والحقيقة: لا أعلم توصيفا لدموع الرئيس الفلسطيني على واحد من قتلة الأطفال الفلسطينيين!!!

 

    «السيسي» والغدة الدمعية

وإذا قدمنا سلامة النية والتفسير فيبدو أن الرئيس المصري لدية إفراط شديد في إفرازات الغدة الدمعية؛ إذ تعددت مشاهد بكائه في مناسبات كثيرة منها ما يستحق التأثر ومنها ما لا يستحق ..
إلا أن ما يثير ريبة المصريين في صدق هذه الدموع هو أنه مع حالة الانهيار الاقتصادي والتوتر الأمني التي يعيشون فيها، فإن خطاب السيسي معهم متناقض تماما مع مشاهد الدموع حيث إنه خطاب تكثر فيه عبارات التوبيخ والتسفيه والتقريع واللوم، وكلها موجهة للشعب لتحميله مسؤولية حالة التردي الاقتصادي والاجتماعي التي يعشيها ولتبرير فشل الحكومات المتعاقبة في توفير حياة كريمة لغالبية المصريين.
وحاش لله أن أصف دموع الرئيس المصري بدموع التماسيح وذلك التزاما بأوامر الله: “ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”، وأنا لا أنوي أن ألقي بنفسي للتهلكة لا بيدي ولا بكلماتي لهذا فإنا أميل إلى تفسير دموع الرئيس بأنها التهاب في القناة الدمعية، شفاه الله وعفاه.
وحتى لا أكون سوداويا متشائما أنهي مقالي بنوع آخر من الدموع، وهي دموع الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا الرجل الذي بكى عند انتهاء ولايته الثانية، بعدما خرج الشعب بالملايين ليس ضده بل ليطالبوه بتعديل الدستور ليبقى لولاية جديدة ..
فخطب في الجماهير وهو يودعهم قبل مغادرة القصر الرئاسي وهو يبكي: “ناضلت قبل عشرين سنة، ودخلت السجن لمنع الرؤساء من أن يبقوا في الحكم أطول من المدة القانونية. كيف أسمح لنفسي أن أفعل ذلك الآن”… رزقنا الله وإياكم.
 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه