دستور المعسكر.. ضبط المصنع

 

 

وافقت اللجنة العامة بالبرلمان المصري على مقترحات التعديلات الدستورية التي تنسف ما تبقى من روائح يناير في الدستور المعمول به حاليا، ولن تتوقف عجلة القطار حتى تصل محطتها الأخيرة قبل رمضان المقبل بنسخة أكثر عسكرة للدستور، تعيد الحياة السياسية إلى ما يمكن وصفه بضبط المصنع وفقا لتقاليد الحكم العسكري التي حكمت مصر منذ 1952 وحتى الآن باستثناء الفترة القصيرة عقب ثورة 25 يناير وحتى الإنقلاب عليها في 3 يوليو 2013 والإطاحة بأول رئيس مدني منتخب.

كما كنا ندرك مبكرا أن قائد الانقلاب عبد الفتاح السيسي لن يترك مقعد الرئاسة لغيره من شركاء الانقلاب الذين كانوا يمنون أنفسهم بذلك، رغم تكراره لعهود أنه لن يحكم وأن شرف العسكرية أهم عنده من أي شيء آخر، فقد كنا ندرك مبكرا أيضا أنه لن يترك هذا المقعد المغتصب إلا جثة خاوية، وهذا هو منطق الأمور، فكيف لشخص يعتقد أنه عرض نفسه للخطر، وكان يمكن أن يدفع رقبته ثمنا لخيانته أن يتنازل لغيره عن حلم حياته؟!

تمديد الفترات الرئاسية

بيت القصيد في التعديلات كما يعرف الجميع هو تمديد الفترات الرئاسية إلى 6 سنوات، في كل دورة، وهو ما يعني أن السيسي يعتزم الإستمرار في الحكم كمرحلة أولى حتى العام 2034، وهو يضمر في نفسه الاستمرار لما بعد ذلك لو كان في العمر بقية، ولأنه يعتزم الخلود في المنصب فإن الصلاحيات الدستورية الحالية لا تناسب مقاسه، ولذا تحرك لتوسيعها قضما من السلطات الأخرى، وخاصة الحكومة والبرلمان، والقضاء، ليصبح الحاكم بأمره لا بأمر الدستور، ولا باسم الشعب.

التعديلات المقترحة تكشف بكل وضوح الصورة المستقبلية للمجتمع الذي للمفارقة سيكون تراجعا مريعا إلى الخلف، مع المزيد من الحصار للمجتمع، وكتم أنفاسه، حتى وإن تضمنت التعديلات مزايا شكلية لبعض الفئات مثل تخصيص ربع المقاعد على الأقل للمرأة، وتحديد نسب للأقباط والشباب، وأيضا للعمال والفلاحين، فيما يبدو رشوة مكشوفة لضمان دعم هذه الفئات للتعديلات.

لم يكن السيسي في واقع الأمر بحاجة لهذه التعديلات لأنه لا يحكم وفقا لنصوص دستور أو قانون أصلا، وكل ما كان يهمه هو تعديل النص الخاص بفتح مدة الرئاسة ليستتر بهذا النص في اغتصابه للسلطة، ولكنه وجد الساحة المحلية والإقليمية والدولية محفزة لهذه التغييرات، فالوضع الداخلي أصبح تحت السيطرة التامة للأجهزة الأمنية، ومعظم رموز وقادة المعارضة الجادين تم الزج بهم في السجون، والمنافي، والشعب يعيش حالة من الخوف التي لا تسمح له بالتحرك رغم كل مشاعر الغضب المتصاعدة، وما تبقى من قوى وأحزاب سياسية يتحرك بحذر شديد.

أما على المستوى الإقليمي فالنظام مطمئن للدعم الصهيوني الإماراتي السعودي، فتلك الدول التي استثمرت فيه كثيرا من قبل ليست على استعداد للتخلي عنه حتى لا تفقد مكتسباتها التي حققها لها السيسي على حساب الشعب المصري والسيادة المصرية.

أما دوليا فإن العالم مشغول بقضايا أخرى أكثر إلحاحا، كما أن العواصم الغربية الكبرى تتعامل مع السيسي كرجل سفيه تقتنص منه صفقات بمليارات الدولارات تغذي بها اقتصاداتها وتحرك بها أسواقها، وهي تدرك أن لا حاجة للشعب المصري بتلك الصفقات مع أنه هو الذي سيدفع تكاليفها لأجيال مقبلة.

الغاء مكتسبات القضاة

حالة الغرور التي انتابت السيسي جعلته لا يقتصر على تمديد فترات الرئاسة، أو صلاحيات منصب الرئيس، بل دفعته لإلغاء مكتسبات فئة من أهم حلفائه وهم القضاة والذين لعب الكثيرون منهم أدوارا في منتهى القذارة حشدا ودعما للانقلاب على أول رئيس منتخب، وتسويقا للحكم الجديد الذي أجزل لهم العطايا خلال السنوات الماضية لكنه يعتزم نزع ما تبقى من مظاهر استقلال القضاء في التعديلات الجديدة التي تمنح السيسي حق تعيين النائب العام لأربع سنوات فقط على الأكثر، بعد أن كان النائب العام لا يعزل إلا بالوفاة، وتعيين رئيس المحكمة الدستورية وأعضائها بعد أن كان ذلك يتم بانتخاب من جمعيتها العمومية، وإلغاء صلاحية مجلس الدولة في المراجعة الإلزامية لجميع مشروعات القوانين قبل إصدارها، وفوق كل ذلك تشكيل مجلس أعلى للهيئات القضائية برئاسة السيسي، وهو منصب جديد تستحدثه التعديلات للسيسي الذي هو أيضا رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، والمجلس الأعلى للشرطة، ويضاف إليهما القضاء، أي أنه يجمع رئاستي السلطتين التنفيذية والقضائية، أما التشريعية (البرلمان) فقد أعاد لها ماكان يوصف من قبل بالزائدة الدودية (الذي سيصبح بمسمى مجلس الشيوخ هروبا من مسمى مجلس الشورى)، وهو مطمئن إلى طريقة اختيار نواب هذين المجلسين، ومن ثم انضباط أداء النواب وفقا للنوتة المقررة.

الجيش وحماية الدستور

من كوارث التعديل إسناد مهمة حماية الديمقراطية والدستور، والدولة المدنية للمؤسسة العسكرية، وهو استجلاب للنموذج الكمالي التركي الذيأصبح جزءا من ماضٍ كئيب في تركيا بعد استقرار الحكم المدني وعودة الجيش لثكناته، وهو أمر يصادم نواميس الحياة والكون، فالجيوش تقتصر مهامها في كل الدول الديمقراطية على حماية الحدود والثغور والأمن القومي والمساعدة في الإغاثة والطوارئ، وهي تقوم أساسا على الجندية الكاملة والسمع والطاعة، بعيدا عن قواعد الديمقراطية والتنافس السياسي التي تعرفها الحياة المدنية، وليس متوقعا من مؤسسة تحمل هذه المواصفات أن تحمي دستورا ولا قيما مدنية هي لا تعتنقها أصلا، وسيكون هذا النص غطاء لكل تدخل عسكري (لاحقا) ضد بعض القرارات والسياسات العامة التي لا تروق للمؤسسة العسكرية مهما كانت تلك القرارات او السياسات مبنية على أسس صحيحة وتصب في مصلحة الشعب وتطور الوطن.

فرصة جديدة

معركة تمرير تعديلات الدستور ليست نهاية المطاف، بل إن هذه المعركة مثلت فرصة جديدة لتقارب كل القوى المناهضة والمعارضة لحكم السيسي، وهي فرصة لمزيد من كشف أكاذيبه أمام الشعب بعد أن تعهد في نوفمبر 2017 بعدم تعديل الدستور، وعدم الترشح لأكثر من فترتين، هي إذن مجرد جولة في معركة طويلة لم ولن تتوقف إلا باستعادة الحكم المدني الكامل، ومحاسبة كل من أساء له، ولثورة الشعب وتطلعاته المشروعة في غد أفضل.                                                              

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه