درس أكتوبر: لاسياسة في العسكرية ولا عسكرية في السياسة

(1)

لدي مشروع بحثي قديم بعنوان «7 من أكتوبر: اليوم التالي للنصر»، وهو مشروع في التحليل الثقافي، لا يقتصر على التأريخ العسكري ولا يكتفي بتحضيرات حرب أكتوبر وأيامها الـ 18 المتقلبة (مصادفة الـ 18 يوماً تذكرنا بثورة يناير)، وما آلت إليها نتائجها، والمشروع البحثي ينطلق من فكرة بسيطة تؤكد انتصار الجندي المصري في 6 من أكتوبر/تشرين الأول، وانهزام البلاد كلها في اليوم التالي للنصر، ولهذا كلما جاءت سيرة حرب أكتوبر، تصيبني حالة من الوجع النفسي والذهني، وبالطبع فإن الوجع ليس وجعا ذاتياً وفقط، لكنه وجع وطني يتجاوز الحالة المصرية إلى الوجدان العربي كله.

(2)

أذكر أن «الحالة» التي أتحدث عنها بدأت تعتريني بعد قراءتي التفصيلية لمذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي، وكنت قبلها (مثل معظم أبناء جيلي) قد قرأت الكثير عن حرب أكتوبر في مؤلفات هيكل، والفريق فوزي، وجمال حماد، ومذكرات قادة الحرب أنفسهم مثل وزير الحربية أحمد إسماعيل، والمشير الجمسي (قائد غرفة العمليات، ورئيس الأركان المستتر بعد عزل السادات للشاذلي من دون إعلان أثناء المعركة)، واللواء عبدالمنعم خليل قائد الجيش الثاني، والفريق يوسف عفيفي قائد الفرقة 19 في الجيش الثالث، وحتى العميد عادل يسري، قائد أحد الألوية بالجيش الثاني، وآخرين كثيرين، بالإضافة إلى مذكرات جنرالات العدو، والكتب الأجنبية، ومذكرات الرئيس السادات نفسه (البحث عن الذات).

(3)

في بداية الأمر كانت قصة «ثغرة الدفرسوار» هي الدراما المشوقة التي جذبت الاهتمام وأثارت الجدل، ثم جاءت بعدها تسريبات الصراع بين السادات والشاذلي، والتي أشعلت معركة ما سمي حينذاك: «حرب تحرير أم حرب تحريك؟»، والتي هوجم بسببها كل من هيكل ويوسف إدريس، خاصة وأن مفاوضات فك الاشتباك، كانت جسرا لعبور السياسة إلى ميدان المعركة، فاختلطت مواقف السياسيين بتقديرات العسكريين، ووصل هذا الخلط ذروته في تعقيد العلاقة بين السادات كسياسي يلعب بالحرب، والشاذلي كجنرال انتقل في «صفقة ترضية» إلى مجال العمل الدبلوماسي سفيرا لمصر إلى دولة أوربية.

(4)

في البداية رفض الشاذلي بحسم عرض السادات، وقال للوزير أحمد إسماعيل بلهجة تهديد قاطعة: إذا كان البديل هو المحاكمة، فأنا مستعد للمحاكمة، لكنني لن أذهب للخارجية، كما رفض الوساطة الثانية، عندما أرسل إليه الرئيس السادات اللواء حسني مبارك قائد القوات الجوية، وأخيرا طلبه السادات لمقابلة في أسوان، وأقنعه بقبول المنصب، لأنه يحتاجه كخبير عسكري في أوربا من أجل ترتيب صفقات سلاح، خصوصا مع الألمان، وكانت موافقة الشاذلي أشبه بحادثة انزلاق جنرال من أرض العسكرية الصلبة، ذات المواقف المحددة، والتقديرات القاطعة، إلى رمال السياسة الناعمة، فاختلطت شجاعة المحارب بدهاء المفاوض، وانتهت حادثة الانزلاق بنوع من «اللعنة» أو المأساة (يمكن أن نعتبرها «مهزلة» أيضا)، وقد تمثلت هذه «اللعنة» في انفجار العلاقة بين رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبين رئيس أركان هذه القوات والمهندس الأبرز لخطة النصر! وهي حادثة نادرة في تاريخ العسكرية المصرية، يعيش رئيس أركان النصر منفيا، ويحاكم بتهمة إفشاء أسرار عسكرية، ويحكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، وينفذ الحكم، حتى بعد اغتيال السادات!

(5)

حتى ذلك الحين لم أكن قد التقيت الجنرال الشاذلي وجها لوجه، وبالطبع لم ألتق به أبدا بعد ذلك، لأن الرجل الذي التقيته في نهاية التسعينيات، لم يكن الجنرال، بل السياسي والمؤرخ والكاتب، وقبل ذلك كله وبعده كان «العسكري» الذي انزلق من «لعبة» يعرفها ويجيدها، إلى «لعنة» ضبابية بلا ضفاف، وعندما وقع في الفخ ركز كل وقته وجهده في الدفاع عن نفسه أمام «التاريخ»، فالحاضر بالنسبة له انتهى مع خروجه من الميدان، وانزلق «الواقع» كله بقوة أكبر وسرعة أخطر نحو الفخ المحكم (الخلط بين العسكرية والسياسة) وهو الفخ الذي كتبت كثيراً من أجل تجنب الوقوع فيه في أعقاب 30 من يونيو/حزيران، لكن يبدو أن الجنرالات مهما كانت شجاعتهم الشخصية، وإخلاصهم الوطني لا يستطيعون مقاومة الإغراء الناعم للسياسة، فيلتهمون تفاحة السلطة، ويغرقون في بحر الرمال، وهنا يحضرني شعار العلمانية الشائع الذي يقول: “لا سياسة في الدين ولا دين في السياسة” لكنني أحب أن أستخدمه بتصرف ليناسب موضوع المقال، وموضوع المرحلة كلها، فأقول بكل وضوح وحسم: “لا سياسة في العسكرية، ولا عسكرية في السياسة”.

(6)

بحر الرمال الناعم الذي تحدثت عنه في الفقرة السابقة، هو تلك “اللحظة الانزلاقية” التي يهرول فيها الجندي نحو “الغنائم” تاركاً سلاحه على أرض المعركة، في تلك اللحظة المأساوية يتحول النصر إلى هزيمة، وتصبح البطولة سلطة حكم، وتتحول التضحيات إلى ذريعة سلب ونهب، وتضيع المعاني العظيمة، وينهار كل شيء، ولعل هذا هو الفارق الفادح (من وجهة نظري) بين 6 من أكتوبر/تشرين الأول بما سبقها من أمل وعزيمة، ويوم 7 من أكتوبر/تشرين الأول بما يعنيه من رمزية تكشف لنا جانبا من المهازل والخطايا والخيانات الحقيرة التي ارتكبها الأوغاد في اليوم التالي للنصر.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه