“حَكَمَة” في كأس السوبر، هل حان وقت احتفال النساء؟

ما ميز المباراة بحق ليس أداء اللاعبين الممتاز، ولا خطورة الفرص الضائعة أمام المرمى، وإنما ميزتها السيدة ستيفانيا فرابارت، (فرنسية 35 عاما)

 

حبس عشاق المستديرة أنفاسهم أثناء مباراة السوبر الأوربي المنتظرة بين ليفربول وتشيلسي، ولقد كانت المباراة على قدر التوقعات، ممتعة وحامية الوطيس، ولم تنته إلا مع ركلة الترجيح الخامسة بعد شوطين إضافيين لصالح ليفربول؛ لكن ما ميز المباراة بحق ليس أداء اللاعبين الممتاز، ولا خطورة الفرص الضائعة أمام المرمى، وإنما ميزتها السيدة ستيفانيا فرابارت (فرنسية 35 عاما)، التي تولت للمرة الأولى في التاريخ تحكيم مباراة أوربية على هذا المستوى الرفيع بوصفها حكمة ساحة مع فريق كامل من الحكمات النساء.

فرابارت وشتاينهاوس والكروت الصفراء والحمراء:

واقفةً أمام حارس ليفربول العملاق أدريان، والذي بدا تقريبا ضعف طولها، مطالبةً إياه بحزم بالتزام خط مرماه قبل تنفيذ ضربة الجزاء، ولاغيةً هدفين لتشيلسي وسط معمعة من الجدال مع اللاعبين، ومطلقة صفارتها في 22 حالة فاول، هكذا أثبتت فرابارت جدارتها في مباراة يمكن وصفها بأنها خالية من الهفوات التحكيمية.

وتذكرنا ستيفانيا فرابارت التي رفعت ثلاثة كروت صفراء في وجه ثلاثة لاعبين، بينهم كابتنا الفريقين، بـ بيبيانا شتاينهاوس، أول حكمة ألمانية حكَّمت في الدوري الألماني عام 2017. قبل أربع سنوات من اليوم، وحين رفعت شتاينهاوس الكرت الأحمر في وجه اللاعب التركي كريم ديميرباي في دوري الدرجة الثانية، لم يتمالك الأخير نفسه من الغضب ليشتمها بعبارات وصفت بأنها معادية للنساء، منكرا أن يكون للنساء مكان أصلا في كرة القدم..
وبسبب هذا الفعل عاقب الاتحاد الألماني ديميرباي بحرمانه من اللعب في خمس مباريات، وبإجباره على التحكيم في مباراة للفتيات، الأمر الذي نفذه بامتعاض تجلى في تحكيمه المباراة ببزة رسمية ومعطف. “إنه لم يرتد حتى حذاء رياضيا!”

هكذا عبرت شبيغل أون لاين عن استنكارها لتصرف ديميرباي.

التهكم والحماس، كلاهما يعيقان التفكير بصفاء

لكن ردود الفعل التهكمية في مثل هذه المواقف لا تختلف كثيرا عن ردود الفعل الحماسية، فكلا الردين الانفعاليين يعيقان تقييمنا للأمور بوضوح، ونجاحُ فرابارت في مباراة الأمس، والذي يعتبره الكثير من المناضلين من أجل قضايا المرأة خطوة عملاقة نحو مزيد من المساواة بين الرجال والنساء، يحتاج منا جميعا رجالا ونساء الكثير من التأمل والتفكير، فما الذي تريده المرأة بالفعل؟  وإلى أين تريد أن تصل؟ وهل محافظتها على لياقتها الكاملة خلال أكثر من 120 دقيقة من الركض المتواصل، وعلى رقعة مليئة برجال ذوي بنية عضلية قوية، يجري التستسترون في عروقهم، يُعدّ هدفا تحتفي نساء العالم ببلوغه؟ وهل ستقدم خطوة كهذه شيئا حقيقيا لنضال المرأة على طريق نيل حقوقها ورفع الظلم عنها؟

يقر كل منصف بأن هناك ظلما ما تتعرض له النساء في معظم بلدان العالم، حتى تلك “المتحضرة” منها، وبأن هناك حاجة ملحة لأن يتم رفع التمييز بين الرجال والنساء في العديد من ميادين الحياة، لكن تعاطفنا مع قضايا المرأة يجب ألا يُثمر عن حماس أعمى لأية خطوة تبدو ظاهريا نصيرة للمرأة، دون أن نفكر فيها أولاً ملياً.

ليست أكثر من إنجازات رمزية

لقد كانت ألمانيا هي الرائدة في تمكين المرأة من مهنة التحكيم في كرة القدم، حيث تمارس النساء هذه المهنة في دوريات المقاطعات ولجميع الدرجات، لكن ألمانيا نفسها لا تزال تشكو من انخفاض نسبة ما تتقاضاه المرأة بمقدار 20% عما يتقاضاه الرجل لقاء العمل نفسه، ولا تزال تشكو من قانون يشرعن الدعارة ويفتح أبواب الإتجار بالنساء على مصراعيه، وإن حماس النساء لنجاح فرابارت في التحكيم في مباراة يلعب فيها 22 رجلا، يجب ألا يُلهيهن عن المشاكل الحقيقية التي تعاني منها النساء حتى في دولة متقدّمة من دول العالم الأول مثل ألمانيا.

وهذه الإنجازات التي تقوم بها النساء هنا وهناك في العالم، مقتحماتٍ مجالات عمل رجالية مئة بالمئة، يجب ألا تنسيهن على روعتها أنها مجرد إنجازات رمزية، قد تحمل للكثيرين معنى كبيرا، وقد يعتبرها الكثيرون أيضا تأكيدا من قِبَل النساء أنفسهن على معاني التفوق الذكوري الذي يناضلن ضده.

فأن تسعى المرأة بكل جهدها لتدخل ميادين الرجال، وأن تنافسه في مجالاته، يؤكد على أنها تعتبر الصورة الذكورية من الإنسان مثلا أعلى لها، لا تتحقق ذاتها إلا باتباعه وتقليده، وهذا يتجلى في الدعوات النسوية الساذجة للتدخين وشرب الخمر والسهر خارج المنزل وممارسة الجنس بلا قيود كالرجال تماما، للتأكيد على “تحررهن”.

العالم من حولنا صناعة رجالية مئة بالمئة

منذ تسعينيات القرن الماضي بدأ العديد من الباحثين يتناولون بشكل جاد موضوعاً قلما تم تناوله في العالم العربي، ألا وهو علاقة الفضاءات العامة بما فيها تنظيم المدن وهندسة العمارة بالجنس، وبهذا الخصوص قُدمت العديد من الأوراق البحثية وألفت العديد من الكتب ككتاب “المرأة والفضاء العام في المناطق الحضرية” للأستاذتين والباحثتين الأميريكيتين كارين أ فرانك ولين باكسون.

الأطروحة الأساسية لهذه الأبحاث تتمثل في أن المدن تم تصميمها منذ قديم الزمان وحتى الآن من وجهة نظرة ذكورية، حيث كان الفضاء العام دوما حكرا على الرجال، بينما تمت مراعاة احتياجات المرأة فقط في الفضاءات الخاصة كالمنازل، لذا فإن كثيرا من الشوارع والجسور والميادين العامة وكراجات السيارات وغيرها تجعل من المناطق الحضرية غير صديقة للمرأة، لأنها صممت أصلا لتكون مناطق للرجال.

إن الرجال حين صمموا المدن لم يستطيعوا التفكير في احتياجات النساء، لذا فإن أسئلة من مثل: كم يبلغ عرض الشارع؟ هل يتناسب الرصيف لمرور سيدة مع عربة طفلها أو أكياس تسوقها؟

هل يكون الممر تحت الأرضي مضاء بشكل كاف يجعله آمنا لعبور النساء في المساء؟ هل تتناسب تفاصيل التصميمات في الأبنية مع أحجام أجساد النساء؟ كل هذه الأسئلة بدأت تجعل البشر أكثر انتباها عند تخطيطهم لمناطق جديدة في المدن أو تعبيدهم لشوارع جديدة فيها، ولذا يوجد في مجالس البلديات في ألمانيا مثلا ممثلون عن كل فئات المجتمع ومن بينهم النساء، يؤخذ رأيهم عند أي إجراء جديد في المدن والقرى.

في الحقيقة ليست المدن وحدها تلك التي لا تراعي النساء، بل إن معظم نواحي الحياة تم تقرير قواعدها من قبل الرجال، كأنظمة الحكم، وقوانين الحرب والسلم، والبنى الاقتصادية، ومناهج التعليم، وعلوم الفلسفة والمنطق، وسنوات الدراسة، وقواعد البحث العلمي، وفنون الكتابة، وساعات العمل، ونظام الإجازات، ودرجة حرارة المكاتب، بل وحتى الألعاب الرياضية.

إننا كنساء نعيش في عالم من صنع تصورات الرجال مئة بالمئة دون أن نشعر، ومع ذلك فإن كثيرات منا يناضلن من أجل التأقلم مع هذا العالم معتبرين ذلك نجاحا للمرأة وإثباتا لجدارتها، دون أن يفكرن أولا في أن هذه القواعد قد تكون غير عادلة، وغير مراعية لهن كنساء مختلفات عن أشقائهن الرجال، وأنهن لم يحصلن على الفرصة يوما للإدلاء برأيهن بشأن كل هذا “الأمر الواقع” الذي يعشنه.

الكثير الذي على المرأة أن تناضل من أجله

لذا فعوضا عن السعي إلى المزيد والمزيد من التأقلم مع هذا العالم الرجالي، على النساء أن يفكرن جديا بتغيير قواعده لتتناسب معهن، طالما أنهن الآن جزء لا يتجزأ من العديد من ميادينه الهامة. إن مطالبةً بتغيير نظام الإجازات ليتناسب مع حيضهن مثلا، أو بالاهتمام أكثر بإنشاء رياض أطفال في الجامعات، سيكون أجدى من مطالبتهنّ بالعمل جنبا إلى جنب مع الرجال في قيادة الشاحنات أوتقليم أشجار الشوارع، وإن ميل الفيفا العام الماضي لمنع بث صور المشجعات المثيرات أثناء المباراة، هو أمر يستحق الاحتفاء أكثر بكثير من أن تقوم امرأة بالتحكيم في مباراة كأس السوبر الأوربي.

نعم، لا يزال هناك الكثير الذي على المرأة أن تناضل من أجله، عليها فقط أن تركز جهودها بالاتجاه الصحيح، وأن تتأكد من أن حماسها لا يذهب سدى لصالح ما لا يعود على قضيتها بأي نفع حقيقي، بل يشوش على رؤيتها ويفقدها بوصلتها.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه