حينما يصبح العلم الشرعي مطية كل جوجلي

نور الدين عبد الكريم*

قرأت ذات يوم أن الإمام الشافعي عليه رضوان الله ورحمته كان يحرص في حلقات علمه على أن يستخدم من مصطلحات اللغة العربية أدقها دلالة وأصعبها فهماً حتى يَــبرُز العلماءُ ويَـــتميز الأئمة من بين طلبته، جاعلاً بذلك من العلم الشرعي صرحاً عالياً لا يقدر صعوده ويطيق تسلقه إلا صاحب الهمة العالية والعزم الشديد، وليسقط دونه من لم يكن أهلاً لذلك.
أتذكر هذا الكلام هذه الأيام كلما وقفت على نقاش حول مسألة شرعية سواء كان هذا النقاش في صفحات مواقع التواصل الاجتماعي أو كنت شاهداً عليه في جلسة نقاش أو كنت طرفاً فيه.
فلو أردتَ أن تعرف ما نتمع به في مجتمعاتنا العربية من آداب النقاش العقلاني والحوار الهادف ومهارات الإقناع وتبادل الآراء واحترام وجهات النظر؛ فما عليك إلا أن تكون شاهداً على أحد النقاشات المنتشرة هنا أوهناك أو طرفاً فيها، وأخصص من بينها تلك المتعلقة بمسائل شرعية. أراهنك أنك ستقف على مهارات لو عرف بها منظروا فن الحوار لجعلوه فناً محرماً حرمةً قطعية، ولربما قالوا أن رواده من الخالدين المخلدين في النار.
تكمن المشكلة في أن جدار العلم الشرعي أصبح منخفضا هذه الأيام، ومن السهل أن تجد من يقفز عنه ومن ثم يتصدر للفتوى ويدعي معرفة الحق ويأخذ من رأيه موقفاً متصلّبا لا هوادة فيه ولا رجوع عنه، وكأنه ملَك عين الحقيقة بيديه، فالصواب ما يقول، والضلال ما دون رأيه، الموافق لرأيه هادي مهدي، والمخالف ضال مضل. وما أكثرهم…
من نعم الله علينا أن يسر لنا وسائلاً وأدوات تكنولوجية تتيح لنا التنقل بين أرجاء العالم وأطرافه دون أن نغادر مقاعدنا، فرحلات العلم التي كانت تستغرق أشهراً وسنينا يجوب فيها طالبوه الأمصار والديار بحثا عن عالم بعينه يجلسون في مجلسه ويستمعون إلى حديثه ويدونون له كتبه؛ تحولت إلى لوحة مفاتيح وشاشة ملونة؛ يُدخلانك إلى عالم الجوجل واليوتيوب، وبهكذا يتحول العالم الواقعي إلى عالم افتراضي بين يديك، فتجوب مكتبات الدنيا وتتصفح كتبها وتقرأ ما تشاء وقتما تشاء، وتشاهد وتستمع ما تريد من الدروس دون زمان ومكان، وتتنقل من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب في رحلة لا تستغرق زمن شرب كأس من الشاي. فهذه من نعم الله في حدها الأول، أما في حدّها الثاني فقد أفرزت علماء لم يتعلموا وفقهاء لم يتفقّهوا، ومن هنا أصبح جدار العلم الشرعي منخفضاً ومطيةً لكل جوجلي (نسبة إلى جوجل). 
اتفق علماء ومدرسوا التخصصات الشرعية أنه ثمَّ مراحل يجب على طالب العلم الشرعي أن يتدرج فيها ويجتازها حتى يصل إلى درجة تبيح له أن يبدي آراءه الشرعية في المسائل، أي يخوض النقاش فيها فقط، لا أن يتصدر للفتوى والتحليل والتحريم بعد؛ فعليه أن يدرس آداب طلب العلم والتعامل مع العلماء، ثم عليه أن يتقن علوم النحو واللغة وآدابها، وبعد ذلك يبدأ في تفسير القرآن الكريم وتعلم علومه، والعقيدة، والفقه، وأصول الفقه، والحديث، وعلم مصطلح الحديث، والسيرة، والناسخ والمنسوخ، والقواعد الفقهية، ومقاصد الشريعة، والتعارض والترجيح…. الخ.
ولذلك ورد عن الإمام أحمد بن حنبل أنه سُــــئل، هل بإمكان من يحفظ مائة ألف حديث أن يتصدر للفتوى، فقال: لا، فاستدرك السائل: فمائتي ألف؟ قال: لا، فثلاث مائة ألف؟ قال: لا، فأربع مائة ألف؟ “فقال بيده هكذا وحرك يده” والمقصود أنه لعله يحق له أن يفتي عند هذا القدر. فالعلم الشرعي أمانة ما بعدها أمانة، المتحدث باسمه وريث الأنبياء وناطق بحكم الله على أرضه، لذلك كلما تبحّر في هذا العلم إنسانٌ زاد تواضعا وتهربا من التصدر للفتوى والحكم على المسائل، خوفا وتعظيما لهذا الدور. 
أما العالم الجوجلي، فهو من يقرأ نصاً وافق هواه، وتحليلا مبتورا عن أصله وجذوره، فيظن أن الحق راسخ في هذا الرأي، وعلى الجميع اتباعه والأخذ به، ولا يعلم أن الاختلاف في الآراء سنة سنها الله في خلقه، بما فيهم علماء الشريعة، وأن التركيز على صحة طرق الفهم والإستدلال والاستنباط، لا على نتيجتها فقط، وهذا سبب ظهور مدارس فقهية ومذاهب مختلفة.
العالِم الجوجلي عالــِم لحظي، يبدأ النقاش معتمدا على “جوجل”، وربما يخوض غمار النقاش والخلاف وهو يسمع بالمسألة لأول مرة، فصفحات الانترنت تعج بالفتاوى والآراء، وأمام كل رد يوجد رد جاهز، وما عليه إلا إتقان مهارة القص واللصق.  
العالـــــــِم الجوجلي، ليس بعالم، وإنما شخص لا يدرك أن لكل مقام مقال، وأن لكل فنٍ رجال (ونساء).
العالم الجوجلي، إنسان متطفل.

فيسبوكيات:
لا ننكر أن العلماء هم القدوة، وعليهم يقع الدور الكبير في ضرب الأمثلة على آداب النقاش وطرح الأفكار، والانتقاد واللوم. ومن الأمثلة التي قرأتها وجعلتني أتوقف عليها مطولا وأتمنى أن نجد أمثالها متوفرة في كافة نقاشاتنا وحواراتنا ذلك النقاش الذي دار على صفحات الفيس بوك بين كل من الدكتور محمد بن نصر والدكتور أبو يعرب المرزوقي، وكلاهما يجمعها أنهما من تونس الخضراء، وزملاء تخصص في الفلسفة وعلم الكلام، وصادف أن حاضَرا معاً في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا. دار النقاش بينهما عندما كتب الدكتور المرزوقي مقالاً ينتقد فيه المنصف المرزوقي رئيس تونس في ذلك الوقت، ينتقد فيه قرار ترشحه لدورة جديدة، وله أسبابه وحججه في هذا الانتقاد. فجاء مقال الدكتور محمد بن نصر ليرد حجج المرزوقي -العالم لا الرئيس-، ويبدي وجهة نظره في تأييد المرزوقي الرئيس في ترشحه. فوجّه بن نصر للمرزوقي أسئلة على الملأ، ثم جاءه الرد على هذه التساؤلات، ومن ثم تخلل النقاش ردود ومداخلات من متابعي الطرفين، وكل يكن ويبادل الآخر أجل وألطف عبارات الاحترام والتقدير، وأصدق المشاعر؛ لا مشاحنة ولا مضاغنة، والأهم: لا تخوين ولا تشكيك.
دائما سباقة يا تونس…

يوتيوبيات:
وفي مثال آخر لحوار صحي البحث عن الحقيقة مغزاة وتبادل وجهات النظر أساسه؛ يخوض الإعلامي محمد ناصر هذه الأيام على شاشة قناة “مصر الآن” معركة لم يكسب منها شيء حتى الآن. فقد وجد نفسه منفردا في مواجهة -هو من جر نفسه إليها- مع الشيخ عصام تليمة، وكلاهما “لا إنقلابي”. فبعد أن تحدى الإعلاميُ الشيخَ على أنه سيثبت زلات وأخطاء الإخوان ومؤسس جماعتهم بشكل يظهر حقيقتهم للجميع، قبل الشيخ التحدي برحابة صدر وثقة مؤرخ ووقار عالم. فتم الاتفاق على لقاء طال انتظاره ما يزيد عن الشهر. ليظهر المتنافسان وقد شد كل مئزره بسلاحه، فسلاح العالم عقله وحفظه، فطنته وحجته. وسلاح الإعلامي صولاته وجولاته، مراوغاته واستفزازاته. استعان الشيخ ببعض الأوراق وفاته البعض، واستعان الإعلامي بــــ “لابتوب” ومقاطع فيديو لم يكن لها أثر في منع تليمة من أن يسجل عشرا من الأهداف النظيفة، في حين خرج ناصر من الجولة الأولى بهدف مشكوك في صحته  وثبوته، وللتأكد من صحة “وروده” استخدمتُ آلة تقريب البعيد، ووصل الحبيب، وتعريف الغريب، سائلا مولانا الشيخ عن صحة الهدف، فجاءنا الرد في رسالة فيسبوكية: (هدف محمد ناصر أوف سايد)، والأوف سايد في لغة الشيوخ “تسلل”. وفي الجولة الثانية ظهر تواضع طالب الحق، فاعتراف الكريم بالهزيمة نصر بحد ذاته. أهداف عشر نظيفة أخرى يحرزها تليمة، وناصر يحاول باعترافه بالهزيمة استدراج تليمة إلى هدف يتيم، فيجره إلى الإقرار بأن الإخوان يشعرون بالغرور عند النصر، ويصدح بها مدوياً، هذا هدف عن عشراتك كاملة. وقبل أن يصفر الحكم معلنا الهدف يقطع الشيخُ أنفاسه بقوله ومن منا لا يشعر بالغرور، حتى الصحابة أصابهم ذلك، أولم يخاطبهم المولى عز وجل قائلا: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم). أوليس الإعجاب غرور!!؟؟ فترتسم الضحكة الصفراء على وجه الإعلامي المراوغ، والله عالم بما في القلوب.
لكن ما أعرفه أنه بين كل هدف وآخر الرابح الوحيد هو الباحث عن الحقيقة

_________________

*باحث أردني مقيم في ماليزيا

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه