حول التحالف العربي لمواجهة إيران

 

من القاهرة دعا مايكل بومبيو وزير الخارجيّة الأمريكي، الخميس 10 يناير الجاري، العرب إلى تشكيل تحالف لمواجهة إيران، باعتبارها “العدو”، وخصّ دول الخليج بقوله: إنها لن تشعر بالأمن ما دام التهديد الإيراني قائماً.

والترويج لمُعاداة إيران في صلب السياسة الشرق أوسطيّة للرئيس ترمب وإدارته وصقورها “المتطرّفين”، وهي سياسة مُقترنة بالشر والخبث والغباء السياسي. وهناك ملاحظات على هذه الدعوة والمكان الذي انطلقت منه وظروفها ومخاطرها وتأثيراتها على المنطقة والأوضاع فيها.

بومبيو وأوباما.. الحرب والسلام

دعوة بومبيو جاءت في خطابٍ وجهه إلى العرب من رمز تعليمي أمريكي في القاهرة، وهو الجامعة الأمريكيّة، وطابع الدعوة التحريضي يدفع لمزيدٍ من الصراع والكراهية والعداء، وربما الحرب في منطقة موبوءة بكل أنواع الكوارث المُدمّرة، وهي ليست بحاجة للمزيد منها، إنما بحاجة عاجلة ومُخلصة للإطفاء والتهدئة والحلول القائمة على الحوار والتفاهم والتصالح وتغليب المصالح لإنهاء حروبها الداخليّة والإقليميّة ووضع نهاية للصراعات والأزمات وعلى رأسها القضية الفلسطينيّة التي بدون حل عادل ودائم لها فلن تستقرّ المنطقة أبداً، وستظلّ مُشتعلةً على الدوام.

مقابل خطاب بومبيو في يناير 2019 كان هناك خطاب أمريكي آخر قبل 10 سنوات في يونيو 2009 لـ باراك أوباما الرئيس الأمريكي المُنتخب حديثاً وأول أسود من أصول أفريقيّة يدخل البيت الأبيض ألقاه في رمز تعليمي مصري، وهو جامعة القاهرة، وكان خطاب سلام أمريكي ومدّ الأيادي للشرق الأوسط لإزالة ما يُمكن إزالته من أسباب الكراهية والعداء أو سوء الفهم بين الطرفين على خلفية ثماني سنوات دمويّة هي فترتا رئاسة بوش الابن التي خاض فيها حربين مُدمّرتين ضدّ أفغانستان والعراق.

 خطاب أوباما كان تصالحياً يتطلع إلى المستقبل ويحاول تخفيف حدّة المرارات لدى الشعوب العربيّة والإسلاميّة من الممارسات الأمريكيّة في بلدانهم، وهذا فارق مهم بين كلمة بومبيو التي تدفع العرب للمواجهة والمجهول مع إيران، وبين كلمة أوباما التي كانت تأمل التصالح والتلاقي الجماعي.

عشق إسرائيل.. ومعاداة إيران

واضح أن هناك كراهية شخصيّة مُترسّبة في عقل وقلب ترمب ضدّ أوباما، وهذا ملموس في تصريحاته وسياساته حتى قبل أن يصير رئيساً، كراهية إلى حد التشكيك في مواطنته الأمريكية وميلاده على أرض أمريكيّة، عداء سافر لأحد أكثر رؤساء أمريكا فهماً لطبيعة الشرق الأوسط وتعقيدات قضاياه وأزماته، بعكس ترمب وبنس وبومبيو وكوشنر وبولتون وبقية هذا الفريق الذي لا يعرف من الشرق الأوسط غير أمور ثلاثة هي: العشق لإسرائيل، والابتزاز لأموال السعودية والخليج، والدفع للعداء مع إيران.

ومنذ اليوم الأول لـ ترمب في البيت الأبيض وهو يسعى لإزالة ما يستطيع من إرث أوباما بإلغاء كل قرار اتخذه أو اتفاق أو معاهدة انضم إليها، ومن ذلك انسحابه من الاتفاق النووي الإيراني، ومعاهدة باريس للمناخ، والمسألة هنا تبدو جزءاً من حقد شخصي تجاه الرئيس السابق أكثر منها تحقيق مصالح أمريكية يزعم أنه فرّط فيها لأن الشريك الروسي والأوربي لم ينسحب من الاتفاق مع إيران، والخروج من معاهدة المناخ حاز امتعاضاً دولياً هائلاً، وضمن تشويه سياسات أوباما ما قاله بومبيو في القاهرة: تذكّروا إنه هنا في هذه المدينة تحديداً وقف أمريكي آخر أمامكم وعرض سياسته، وأنها أدّت إلى الفوضى!.

دفع العرب وإيران لانتحار جماعي

والمفارقة أن الذي يتهم استراتيجية أوباما بالتسبّب في الفوضى، تُتهم استراتيجية رئيسه بصنع أكبر فوضى مع الحلفاء والعالم، والفوضى تضرب إدارته، وتطغى على حكمه لأمريكا بشكل غير مسبوق، انظروا إلى عدد الاستقالات والإقالات من الإدارة خلال عامين فقط، إنه رقم قياسي، وانظروا لأحدث أزمة صنعها وهي إغلاق المقرّات الفيدرالية للحكومة بسبب الإصرار على تمويل بناء جدار عنصري عازل غير إنساني على الحدود مع المكسيك رغم الرفض له.

اليوم يريد بومبيو ورفاقه نقل الفوضى في منطقتنا إلى مستوى جماعي أعلى مُخيف بدفع العرب لتشكيل حلف عسكري أمني “ناتو عربي”، والدخول في مواجهة مع إيران إحدى القوى الإقليميّة الكبرى لكي لا يبقى في المنطقة حجر على حجر، بينما الأمريكان يستمتعون بالفرجة على جولة أشدّ خطورة بين المُتصارعين والمُتحاربين على الحلبة، ومثل هذا الانتحار الجماعي يصبّ حتماً في مصلحتهم ومصلحة إسرائيل.

فوائد الاتفاق النووي

أوباما سعى للتهدئة في ملفات عدّة في المنطقة محاولاً افتتاح عهد أمريكي جديد حتى لو لم تأتِ النتائج كما أراد، من ذلك الانخراط مع إيران والدول الخمس الأخرى في مفاوضات طويلة وشاقة للتوصّل لاتفاق بشأن برنامجها النووي، ووضع حد لطموحاتها النوويّة، وكان إنجازاً رغم الملاحظات عليه، وأهم فوائده أنه جعل هذا البرنامج مكشوفاً وخاضعاً للرقابة الدوليّة، ولم يعد بمقدور إيران العمل سراً فيه، ومنح الشعب الإيراني أملاً في مستقبل أفضل بعد إزالة العقوبات ورفع العزلة عن بلدهم واندماجه في المجتمع الدولي، ونزع مخلب التهديد النووي الإيراني كان في صالح الخليجيين الذين رحبوا بالاتفاق ثم غيّر بعضهم موقفه مع رئاسة ترمب واصطفّ إلى جانبه في التصعيد ضدّها، وخاصة السعودية، وليس كل دول الخليج، وليس كل العرب أيضاً، ولأن الأوروبيين أكثر فهماً للمنطقة فلم ينسحبوا من الاتفاق.

تشدّد طهران

اليوم وبعد عودة الأوضاع إلى نقطة الصفر أمريكياً إيرانياً فإن طهران في ظل الحصار الجديد تتجه للتشدّد، وعملياً هي متواجدة في أربعة بلدان عربية، وفي ظل سياسة ترمب ستزداد شراسة وعدوانية وتحكم قبضتها الحديدية الداخليّة على شعبها وتقمع أي تحرّك بسبب تدهور الأوضاع الاقتصاديّة والمعيشيّة، والتصريحات الإيرانيّة التي أعقبت كلمة بومبيو تؤكّد ذلك، وهذا السلوك الإيراني لا يساعد على معالجة الأزمات المشتعلة في اليمن وسوريا ولبنان والعراق، ولا يبني علاقات قائمة على حسن الجوار، ويجعل منطقة الخليج تعيش على براكين لا تهدأ ولا تتوقف، والاستثمار الأمريكي للتغلغل الإيراني والتدخّل في شؤون دول بالمنطقة ومحاولة زعزعة الاستقرار فيها سيجعل عواصم خليجيّة وعربيّة تلقي بنفسها أكثر في أحضان الإدارة المُتطرّفة وتنفذ كل ما تريده ولو كان فيه الخراب للجميع.

إسرائيل والتحالف العربي

العرب الذين يدفعهم بومبيو لتشكيل حلف لمواجهة إيران هم ثماني دول “بلدان الخليج الستة ومصر والأردن” وهذا الحلف ستكون في خلفيته إسرائيل مُفكرة ومُخططة ومُوجهة وربما قائدة له دون ظهور مباشر، ووجود إسرائيل ولو سراً كفيل بإسقاط هذا التحالف شعبياً في العالم الإسلامي وجلب تعاطف مع إيران، ومما يشوّه صورة هذا الحلف المتوقع أن دوله تهرول للتطبيع بشكل مُتسارع ومُذهل مع إسرائيل دون فائدة واحدة للقضية الفلسطينيّة، بينما إيران لا تفعل ذلك بل تستهجنه وتهاجم إسرائيل ولو إعلامياً مما يضعها في خانة أفضل من العرب المُؤتمنين على فلسطين وقضيتها.

من الأصل هذا التحالف فكرة مترعة بالشر الأمريكي لأنها تدفع دول المنطقة لمزيد من الصراعات العبثية التدميريّة، وهو فكرة خبيثة لأنها تضمن وجود صراع عربي إسلامي دائم ومتشعّب ومتغلغل وتبقى إسرائيل في مأمن محتفظة بقوتها مقابل ضعف الجميع عرباً وإيرانين، وفكرة غبية لأن طاقم البيت الأبيض لا يفقه شيئاً عن المنطقة وطبيعتها شديدة التداخل والتعقيد، وما يفهمونه فقط هو أموال أثرياء المنطقة وحلبها ودفع الصراع للاشتعال الدائم، وبذلك يضمنون مزيداً من المال سواء من بيع الدعم السياسي أو من بيع السلاح الفتّاك.

تناقضات التحالف المنتظر

التحالف المنتظر مليء بالتناقضات، دول الخليج الست ليست على قلب رجل واحد، هناك حصار مفروض على قطر، والكويت وسلطنة عمان ضد هذا الحصار، والدول الثلاث قد لا ترضى الدخول في حلف مضادّ لإيران، والأردن كذلك، ومصر قد تساير السعودية والإمارات لسقف معين، لكنها لن تصعّد ضد إيران، ولم يكن جيداً أن تكون القاهرة منصة أمريكية للهجوم على إيران والتمهيد لمثل هذا التحالف، لا مصلحة للقاهرة في ذلك، ولا ضرورة لعداء مجاني.

الحلف محكوم عليه بالهشاشة إذا تشكل، وهو رغبة سعودية بالأساس، فهي التي تخوض حرباً ضد إيران، واعتادت ألا تكون بمفردها في كل مواجهاتها، تسعى لحشد دول عربية وإسلامية وراءها، وهذا ما تريده من “الناتو العربي” حتى لا تكون وحدها في مواجهة لا تقدر عليها، ولا منطق من استعداء عربي مع إيران، والفشل العربي في اليمن وسوريا ولبنان نموذجاً، العرب حالياً دول الضعف والتشتت والأزمات الداخليّة.

أحلام امبراطورية إيرانية

إيران ليست بريئة، ولا حملاً وديعاً، وهي لا تراعي حسن الجوار، وتسيطر عليها أفكار ثوريّة توسعيّة غير واقعيّة، وطوال 40 عاماً من تصدير هذه الأفكار والسياسات لم تتقدّم تنموياً، والغليان الشعبي دائم الانفجار، ويتم قمعه بقوة مُفرطة، فما فائدة تغلغلها في دول عربيّة وأحلامها الإمبراطورية القديمة المتجدّدة أمام انهيار اقتصادي واجتماعي داخلي ؟، وما قيمة سلاح هائل تطوّره بأموال ضخمة وكأنها تريد أن تكون روسيا أو الصين أخرى، وجيرانها الخليجيون ليسوا عدوانيين لو توقفت عن التدخّل في شؤونهم، وإثارة التوتّر في بلادهم؟، وأن تحاربها إسرائيل أمر صعب استراتيجياً وجيوسياسياً، كما لا ترغب أمريكا في تغيير النظام بالقوة، واشنطن تريدها كما هي لتكون فزاعتها لابتزاز العرب.

 بناء الدولة الحديثة أفضل

بناء إيران دولة حديثة، وتوفير مستوى كريم من العيش لمواطنيها أجدى كثيراً من إهدار المال على مشروعات عسكريّة مبالغ فيها وعلى تسمين وكلاء وميلشيات خارجية تمثل دولاً داخل دولها، حزب الله في لبنان، الحوثيون في اليمن، أحزاب وجماعات طائفيّة في العراق، وصاية على نظام الأسد في سوريا، الإمبراطورية الفارسية لن تعود للسيطرة على الخليج بدوله وإماراته، والعرب مهما كان ضعفهم وفرقتهم فهم ليسوا القبائل القديمة، والعالم تتحكم فيه قوى أخرى، والفاعليّة في العالم اليوم لمن يتمسك بالعلم والحرية والعقل للمشاركة في الحضارة الإنسانية، وكوريا الجنوبية التي تستورد كل استهلاكها من النفط، ولا تقارن بما تملكه إيران والسعودية من طاقة وموارد فاق تصديرها في 2018 مبلغ 600 مليار دولار، وهي ضمن مجموعة العشرين بالإنتاج، وليس بثروة نفط طبيعيّة كما السعودية، رغم أنها تعيش تحت تهديد جارتها الشماليّة المهووسة بالتسليح والغارقة في الفقر والطغيان، وتاريخها في التحديث يقلّ عن نصف قرن.

نماذج كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وماليزيا، وتركيا، وإندونيسيا، وتايوان، وإثيوبيا مع آبي أحمد، وفيتنام الواعدة، وكلها دول قريبة في ظروفها من العرب هو ما يحتاجه العرب وإيران في الانخراط بمشروعات تنموية جادّة وتلمّس سبل الحكم الرشيد لبناء دول ناهضة شابة، توفر حياة كريمة محترمة لشعوبها بعيداً عن عبث الصراعات والمُغامرات والغباء والاحتراب والطغيان السياسي والدينيّ.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه