حماقة معصوم وحكمة الفئران (مقال كرونولوجي)

ظهيرة 23 أغسطس/آب وصلت أنباء القبض على معصوم مرزوق فكتبت الخبر وتحته: نمرود طغى، ونحن مستضعفون/ أملنا في بعوضة/ اللهم لا تؤخرها.

 

(1)  بعتب عليك يا زمن

عتاب الزمن جملة متكررة في فن الموال الشعبي، قد تبدو ركيكة ولا تعجب المثقفين، لكن الدارس يكتشف بسهولة ارتباطها بالثقافة العميقة وعوالم الفلسفة والميثيولوجيا.
فالزمن هو الطاغية الأول الذي عانت منه البشرية كلها، لا يهم اختلاف الاسم، فقد كان اسمه عند الإغريق “كرونوس” وعند الرومان “زحل”، واسمه عندنا “القدر” أو “الدهر” أو “الأيام” وهي تسمية نتشارك فيها مع الغرب (days).

لا أدري هل أدرك العوام في مصر علاقة “زحل” بالزمن منذ القدم، فاستمروا يعبرون عن قسوة “لحظة ما” بقولهم: “دا يوم زُحَل”، لكنني أدري بالكثير عن شكوى المصريين من الزمن، حتى أنهم من فرط المعاناة بدؤوا يهربون منه، وينتصرون للحظة العابرة ضد أعز شيء عند الزمن، وهو: “التاريخ”.

(2) موال الصبر

الصبر طيب، الصبر هو الدواء لكل المصائب التي يرمينا بها الزمن، هكذا توصل “العقل الشعبي” لاختراع الصبر باعتباره دواء سحريا يساعد في “تجميد الزمن” وتحييده ونسيانه أيضاً، بينما ذهبت عقول المحاربين لاستخدام الزمن في معاركهم، فاخترعوا سلاح “الجنرال وقت”، ولما زاد سعير الحرب، سعى المحاربون الأشرار لفك تجميد وحوش الزمن التي حبسناها طويلا داخل نفوسنا وعقولنا وبيوتنا وبلادنا، وأطلقوها علينا لنبدأ رحلة فرار طويلة لا نستطيع خلالها الاستقرار في أرض أو حول فكرة أو مشروع.

(3) أسطورة كرونوس

تقول الأسطورة الإغريقية أن الزمن (كرونوس) هو الابن الأصغر من زواج السماء بالأرض (أورانوس وجايا)، لكنه طمع في حكم العالم قبل ظهور البشر، وظل يبتلع أولاده حتى لا يسلبوا منه الحكم، لكن الأمور تغيرت ووصل الحكم إلى البشر، لكن الخوف من الزمن لم يغادر نفوسهم، هذا الخوف قسم البشر إلى نصفين: نصف هارب الذي يتجنب الزمن، وينعزل بعيدا عنه ولا يراقبه، ونصف توصل إلى أن النجاة لا تتحقق بالهروب والجهل بل بمراقبة الزمن وتصرفاته وتحركاته، ومحاولة الاستفادة منها.
وهذا النصف هو الذي اخترع الساعة وانتبه إلى تدوين التاريخ، وسجل حركة الزمن في مسار طويل سماه “كرونولوجي” أي “علم كرونوس”، والمقصود به هو تسجيل الأحداث وفق الترتيب الزمني لنتعرف من خلال مسار الأحداث وعلاقاتها على معلومات لا تتيسر لنا معرفتها إذا تعاملنا مع كل خطوة أو حدث في ذاته بصرف النظر عن حركة الخطوات ومجمل الأحداث، وهذا ما يسمى في الغرب اليوم (تايم لاين).

(4) مسلك الفئران

المقال ليس تهويما معرفياً، أو إعادة لنشر أسطورة كرونوس باختزال مربك، لكنه إعادة تذكير بمقولة قديمة تتهم العرب بأنهم شعوب اللحظة.. ليست لديهم حظوظ في التعلم من التاريخ، وبالتالي فقد وقعوا فيما حذر منهم الراحل أحمد بهاء الدين، وسلكوا طريق الفئران، حيث لا يتعلم الفأر من أسلافه أن الجبن داخل قفص من السلوك المعدنية ليس إلا مصيدة موت، وبالتالي تظل الأجيال المتوالية تقع في نفس الخطأ دون تعلم.
ويمكن تطبيق ذلك على مواعظ نظرية كثيرة تتعلق بالوحدة أهم او الفرقة، وبالتالي سؤال: لماذا نتفرق إذن؟، كما يمكن تطبيقها على أسئلة كثيرة تخص سؤالنا الكبير والمستمر: لماذا نتخلف أكثر بينما الغرب يتقدم أكثر؟

(5) ما الهدف من كل هذه التهويمات؟

المؤسف أنني أصبحت أختنق من المواعظ الكلامية، والمؤسف أكثر أنني أصبحت متناقضا وعشوائياً لدرجة الاغتراب عن المرحلة بكل ما فيها، لأن المواقف المتغيرة لكل فرد فينا لم يعد بالإمكان فهمها إلا من خلال ربطها ببعضها حسب تسلسلها التاريخي، وحسب علاقتها بالزمن، فالزمن بطبيعته يجري بلا توقف، ونحن نتحرك ـأيضا أمامه أو معه أو خلفه أو عكس اتجاهه، لكن هذه الحركة هي التي تعطي القيمة للموضع الذي التقطنا لك فيه صورة فوتوغرافية نحاسبك عليها، بينما الوضع يكون قد تغير تماما!!

أشعر أنني أقول كلاما غامضا، لذلك أحاول تطبيق وسيلة الكرونولوجي على نفسي في التعامل مع نداء السفير معصوم مرزوق مثلا وما أدى إليه من انقسام بين فريق يرى في تصرفه حماقة وذهاب ساذج إلى التهلكة، وبين فريق يراه بطلا أشعل النار في نفسه ليضيء الطريق لقافلة عميان!

ستلاحظون أن مواقفي متباينة وغائمة ومتناقضة وغير محسومة إذا نظرنا إلى كل موقف في ذاته أو في علاقة ثنائية ضدية، لكن إذا حاولنا التوصل إلى سياق أو علاقة خطية (زمنية) تجمعها فقد نعثر على الجوهر الغائب من علاقتنا المرتبكة مع الزمن ومع مسار التاريخ.

فلنجرب

(6) مثال تطبيقي لأسلوب الكرونولوجي

كتبت مجموعة من “البوستات” تخص نداء معصوم مرزوق أولها فور إطلاق النداء مساء 5 أغسطس:

* طالعت نداء المواطن الشريف معصوم مرزوق/ لا يشغلني مضمون النداء الآن، فهذا أمر يستحق اهتمام متأن ونقاش يأخذ وقته/ يشغلني بشكل عاجل الحفاظ على سلامة مقاوم وطني فاضل، من أي محاولات خسيسة للنيل من حريته أو أمنه الشخصي والعائلي// النداء حجر في البركة الآسنة، لكنه يحتاج إلى إجراءات عملية طويلة ليتحول إلى فعل سياسي، ولا يبقى مجرد اقتراح نظري من جانب واحد.

إذا حدث مكروه لمعصوم مرزوق، لن أدافع عنه من الخارج، سأكون بجانبه في أي محنة، حتى لو شاركته نفس الزنزانة//  #توحدوا

* صباح اليوم التالي 6 أغسطس – 1 ظهراً، أسقطت اسم السفير معصوم عن النداء واسميته “نداء الحركة” تجنباً للشخصنة، وضربت مثالا بالمفتاح الصغير الذي يفتح الطريق لدخول قلعة حصينة، وسألت:

هل تأملتم فكرة المفتاح، وأدركتم سحره وقوته؟/ هل تأملتم الفارق بين المتسرعين في تحطيم الأبواب، وتدمير الجدران، وبين الباحثين عن مفاتيح الدخول بسلام؟/ هل تأملتم الفارق بين العنف والسياسة؟.. بين الغلظة والحكمة، بين الخناق والوفاق، بين العقل والقمع؟، بين البذرة والشجرة، بين اللحظة والمستقبل؟

واختتمت البوست بالآتي:

لا تهمني بنود النداء الذي أطلقه المواطن المقاتل معصوم مرزوق، ولست مستعدا للخلاف فيها/ كل ما يهمني أن نتحرك (ومعنا خلافاتنا) لكي ننجز مهمة التغيير.

هل وضحت الخطة؟/ هل بان الطريق؟// فلنتحرك معا.

* عند العصر كانت ماكينة الانقسام قد بدأت تعمل بقوة، وتلاحقت التحذيرات التي تغرق الطريق بأوحال التعطيل والإحباط، فكتبت لمن يركز على العيوب والمخاطر:

أعرف ما تعرفه/ وأخشى مما تخشاه/ لكنني أخجل أن أتباهى بمعرفتي، وأخجل أن أشهر خوفي في وجه الناس/ لأنني أنشد الأمل والأمنيات، وأحارب العجز والاحباط.

اللهم انعم علينا بما نتمنى، لا بما نستطيع/ بما يرضيك، لا بما يرضينا/ #الحركة_بركة // تحركوا.

* ولما سألني البعض عن رأي قاطع في النداء كتبت: رأيي مؤجل لأسباب سياسية تكتيكية/ مع تأكيدي على أهمية النداء كإنذار حريق.. مفزع لكنه ضروري/ المهم الآن أن نخرج من حالة السكون إلى حالة الحركة/ تحركوا، فالكلام يتطور حسب مقدار الحركة.

* زادت حملات الهجوم، فاقتربت أكثر من دعم الحركة الحالمة، لا دعم الأشخاص، وكتبت: أنا جائع، وأنت جائع/ حولنا صحراء قاحلة وبالجوار بئر جاف/ انا ألقي صنارتي في البئر/ وأنت تسخر من محاولاتي العابثة/ أنا أملأ جوفي بالأمل، وأنت تستقبل الموت باستسلام تسميه “الواقعية”// نداء معصوم خيالي/ وأنا أثق في عظمة الخيال.

*ثم كتبت في اليوم التالي عن سبل استثمار النداء (وغيره من صيحات الفعل) لحراك أوسع وأعمق أثراً، وهذا يحتاج إلى تفنيد لكل بند، وطرح المخاوف والتحديات، ليس باعتبارها عقبات، ولكن لتصحيح نظرتنا السياسية، ونقل الحديث فيما بيننا عن ضمانات للنجاح، لا عن معطلات تؤخر سيرنا معا في طريق الثورة/ عاش نضال الفقراء/ عاشت جهود الساعين لدولة الحرية والعدل والكرامة.

* في 8 أغسطس اكتفت بحكمة محفزة عن قدرة عود كبريت واحد على حرق غابة كبيرة، فلا تهنوا ولا تستهينوا.

* في مساء اليوم نفسه كتبت: أحدثكم من قلب المضيق، فلا تنزعجوا من كلماتي الساخطة/ وقلت أن أحد أسباب إرجاء موقفي الشخصي من النداء، كان يركز على:

ترقب ردود الفعل، وقياس المعدلات العملية لتلبية النداء أو الهجوم ضده، وقد بانت المؤشرات وصدق قول الشاعر: أسمعت لو ناديت حياً/ لكن لا حياة لمن تنادي.. نارٌ لو نفخت بها أضاءت، ولكن أنت تنفخ في الرمادِ.

القصة إذن ليست في بنود النداء، ولا في عصمة الخطة من الخطأ، القصة تكمن في مدى استجابتنا لتحديات التخلف والقهر المفروضة علينا، وبالتالي حتى لو تحقق التغيير في مستوى وشكل السلطة، فإن المنتظر هو إبطاء التخلف وتخفيف القهر بما يسمح للمقهورين بقبوله، باعتباره أحسن مما سبق.

هذه الحالة التي أكتب من داخلها، لم تكن لدي بالأمس، لكنها انعكاس لكمية “القرف” التي تجرعتها على مدي يومين من ردود الفعل المحبطة، ومن متاعب أخرى لا تدعوني للتفاؤل السريع بإمكانية التغيير، وبالمناسبة لمن يفتش عن موقف مختزل على طريقة نعم/ لا، أو حسابات جدول الضرب أقول:

نعم أنا مع النداء ضد الصمت/ مع الحركة ضد الركود/ مع الرفض ضد الإذعان/.

مع كل هذا وأكثر، إذا كان العقل أو حساب المنطق يدفعني للقبول بما يخالف إنسانيتي/ سأشتم وألعن وأرفص بقدمي في وجه سجاني، حتى لو كانت كل التوازنات ليست في صفي/ ففي النهاية، لن تتحقق النتائج بجهدي وحدي، وحتى تستقيموا وحتى يأذن الله، سأقاتل ضد الظلم وضد القهر مع كل راية ترتفع بنداء الحرية والعدل.

* ظهيرة 23 أغسطس وصلت أنباء القبض على معصوم مرزوق فكتبت الخبر وتحته: نمرود طغى، ونحن مستضعفون/ أملنا في بعوضة/ اللهم لا تؤخرها فقد أعيانا الانقسام وأعمانا الخبل السياسي.

* ثم أردفت بعدها بدقائق: حملة العيد لا تضم معصوم مرزوق وحده، معه قائمة، منها: الدكتور رائد سلامة، وربما يلحق بهم الدكتور يحيى القزاز، وعدد آخر ممن رصدت السلطات حماسهم للحركة، ولقائهم السفير معصوم للنقاش في خطوات تنظيم مؤتمر 31 أغسطس.

والغرض من هذا كله أن معصوم ليس وحده في السجن، لكن كل من يوافق على ذلك، ففي زمن القهر مفيش حد فيكم معصوم.. #مفيش_معصوم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه