حكم العسكر ما بين الضرورة والألاعيب

وطالما أن حكم العسكر دائما ما يكون مدفوعا باحتياج استثنائي، وقت مخاطر الحروب والإرهاب ،إذا هو حكم استثنائي وليس طبيعيا

 

عندما نشرت بعض وسائل الإعلام تصريحات الناقدة لميس جابر التي أعلنت فيها أنها تلقت تهديدات من «داعش» بقتلها، وتصريحات مرتضى منصور رئيس نادي الزمالك بأنه تلقى تهديدات من قطر باختطاف ابنه، مثلي مثل معظم المصريين تعاملت مع التصريحين بسخرية، ولكني بحكم تركيبتي النفسية القلقة توقفت قليلا لأربط بين هذين التصريحين وغيرهما من التصريحات والأخبار والإيحاءات والأحداث التي يتم تصديرها لنا يوميا لإيهامنا بأن هناك إرهابا مقيتا يحيط بالوطن ويهدد أمنه، وتتنامى الأساليب للوصول في النهاية إلى حتمية حكم العسكر لتوفير الأمن والأمان، وفي المقابل رؤية من عدد غير قليل من الشعب يرفض حكم العسكر بدوافع مختلفة منها ما هو تاريخي وموروث، ومنها ماه و منطقي يستند إلى رؤية سياسية، وما بين الضفتين حقيقة دائما مسجونة.

وطالما أن حكم العسكر دائما ما يكون مدفوعا باحتياج استثنائي وقت مخاطر الحروب والإرهاب إذا هو حكمٌ استثنائيٌ وليس طبيعيا، وقبوله يتعلق بصدق الدوافع وراء المطالبة به، ورفضه يتعلق بكذب وزيف الدعوات المطالبة به، وزيف المبررات الداعية له، باختصار ينطبق عليه المثل المصري» لكل مقام مقال: «، فمتى كان حكم العسكر ضرورة، ومتى أصبح حكما فاشيا مستبدا مرفوضا؟، الإجابة تتحدد بصدق الدوافع والضرورات التي يستند إليها حكم العسكر كمبررات لوجوده أو كذبها.

الضرورات

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى وتوقيع معاهدة فرساي عام 1919 التي حملت ألمانيا مسؤولية الحرب وألزمتها بتعويض الأطراف المتضررة ماليا، شعر الشعب الألماني بالإهانة وخاصة بعد تحديد عدد الجيش الألماني بمائة ألف جندي، وكانت هذه المشاعر المستنفرة والغاضبة للشعب الألماني سببا في التفاف الألمان حول شعارات الحزب النازي المؤيدة للقومية، والحقيقة كان الالتفاف ليس حول الحزب النازي وإنما حول عضو الحزب أدولف هتلر، أحد العسكريين المميزين في الحرب العالمية الأولى وصاحب الكاريزما (الجاذبية) الشخصية والقدرة الخطابية المميزة، وضخم «هتلر» من أحاسيس الغضب لدى الشعب الألماني، ولاقت دعوته القبول المتحمس للحكم العسكري بل أوصلت كلمات الزعيم النازي الملتهبة الشعب الألماني إلى تبني الفكر النازي القائم على تميز الشعب الألماني عن بقية شعوب العالم

استطاع هتلر أن يحصل على تأييد الجماهير بتشجيعه لأفكار تأييد القومية ومعاداة الشيوعية وكانت الكاريزما (الجاذبية) التي يتمتع بها في إلقاء الخطب وفي الدعاية لعودة الروح والقوة لألمانيا وتغلبها على مرارة الهزيمة في الحرب الأولى من خلال هدف معلن أطلق عليه المجال الحيوي والمقصود به السيطرة على مناطق معينة لتأمين وجود ألمانيا النازية وضمان رخائها الاقتصادي، وبدأ في تكوين جيش قوي ضاربا ببنود معاهدة فرساي عرض الحائط، وهذا الموضوع تحديدا الكلام والتحليلات والرؤى فيه كثيرة وما يهمني منه هو أن الضرورة وانهيار المجتمع الألماني وهزيمته في الحرب العامية الأولى كانت سببا في التفاف الشعب حول الحكم النازي العسكري الفاشي، وهنا كانت الهزيمة والإحساس بالعار هما الضرورتين وراء التفاف الألمان حول «هتلر» والاذعان لحكمه النازي الفاشي، وقبول ديكتاتوريته باعتباره المخلص للوطن الألماني من العار والهزيمة.

اختلاط العسكر بالسياسة

وسار العالم من الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية، وبعدها تنامت حركات التحرر الوطني في الدول المحتلة، وانهارت المستعمرات الكبرى للدول العظمي، كل هذه الملامح في هذه الفترة كانت تمثل سببا منطقيا لهيمنة العسكر على الحكم، وتراجع المدنيين، وكانت المبررات منطقية ومقبولة من الشعوب آنذاك وخاصة في الكثير من الدول الأوروبية التي كان للعسكر فيها دور كبير سواء في قيادة الجيوش النظامية، أم في قيادة المقاومة الشعبية في مواجهة مخاطر الاحتلال الخارجي أثناء الحرب، مثل شارل ديجول في فرنسا وجوزيف بروس تيتو في يوغسلافيا، وكلاهما قاد المقاومة العسكرية لتحرير بلاده أثناء الحرب العالمية الثانية.

خصوصية الشرق

وكما حدث في معظم الدول في العالم الغربي حدث بعد ذلك في معظم دول الشرق التي تشكل مستعمرات الممالك الكبرى، فقد كانت حركات التحرر التي انتشرت في هذه المنطقة مبررا منطقيا لقبول الحكم العسكري، وصعود العسكر لسدة الحكم، ولكن كان هناك فارق كبير في المحتوى والأداء والمسار.

الشعوب في النطاق الغربي من العالم تعاملت مع اختيار الحكم العسكري باعتباره ضرورة مؤقتة، ومرحلة تنتهي بانتهاء مهامه، وفي ظل وجود تطورات ومحددات أخرى مثل الثورة الصناعية وإحلال سياسة الهيمنة الاقتصادية محل الهيمنة العسكرية، لهذا كان الحكم العسكري في هذا القطاع متناغما مع مفاهيم المواطنة والحريات، ومقدرا لدور الشعوب وليس متعاليا عليها، وهو ما يفسر تنحي الجنرال شارل ديجول عن الحكم في ظل تنامي شعبيته، فقد كان الرجل مؤمنا بأن الحاكم الذي لا تحصل سياساته على موافقة شعبية بأغلبية كبيرة، لا يستحق أن يقود امته، وهو ما جعله يتنحى عقب استفتاء على قرار حصل فيه على تأييد ما يزيد قليلا على 60 في المائة من أصوات الشعب، فاستقال معتبرا أنها نسبة لا تؤهله للاستمرار في الحكم والتعبير عن الشعب.

فكان من الطبيعي أن تكون النتيجة النهائية لمراحل الحكم العسكري في الغرب، متوجة بحكم شعبي ديمقراطي ركيزته الأساسية تداول السلطة.

وما حدث في الغرب يتعارض تماما مع خصوصية الشرق التي تستمد فيه الجماهير والشعوب قوتها من رضاء الحاكم لا العكس

 

 

 

  • لا صوت يعلو فوق صوت المعركة

وبتركيز أكثر على  الحالة المصرية أبدا بنفي التصور أن الحكم العسكري لمصر قدر ممتد منذ بداية فترة محمد علي، فلا يمكن الحكم بضمير مستريح على أن حكام مصر من الأسرة العلوية حتى 23 يوليه 1952 ينتمون فكريا وسياسيا إلى المدرسة العسكرية، بصرف النظر عن المدارس العسكرية التي تلقى معظمهم دراستهم فيها، فقد كان حكمهم أقرب للحكم المدني، والثابت بما لا يدعو للشك أن الحكم العسكري تبلور بوضوح منذ 23 يوليه 1952، وهي فترة لم يكن الحكم العسكري فيها أمرا منتقدا للأسباب إلى ذكرتها في السطور السابقة، ولكنه أختلف عن الحكم العسكري في الغرب فالعسكر في مصر لم يتعاملوا مع وجودهم في الحكم باعتبارهم مرحلة مؤقتة تؤمن استقلال البلد وتقود الوطن للمسار الطبيعي الذي تسير فيه الدول وهو الحكم المدني والديمقراطية وتداول السلطة، بل اعتبروا أنفسهم قدرا أزليا يرتبط بوجود الوطن نفسه، ولأن وجود الحكم العسكري مرتبط طوال الوقت بوجود مبررات استثنائية تدعو إلى وجوده، فكان لا بد من توفير هذه المبررات لضمان شرعية النظام العسكري وتبرير ضرورة وجوده، وبدأت سلسلة المبررات الممتدة حتى الآن بالعبارة المعروفة في مصر والمقررة على الوجدان المصري كأنها نص سماوي «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة»، وهو ما يعني أنه لا حديث ولا رؤية ولا موقف ولا معارضة لحكم العسكر طالما،ظل الشعب المصري يعيش قابلا الحكم العسكري تحت مظلة لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، حتى هزيمة 1967. واستمر الشعار بحجة إعادة بناء الوطن، واستمرت المعركة ضرورةً لا تنتهي كمبرر لحكم العسكر، سواء كانت معركة وهمية مع الصهاينة أو مع مخططات خارجية لا نعلمها أو مع الإمبريالية أو مع الإرهاب، فالمعركة في مصر قدر لا ينتهي. وماتت أجيال وظهرت أجيال جديدة لم تعرف عن الواقع السياسي المصري سوى أنه لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ولم تتصور هذه الأجيال أن هناك وجودا سياسيا بعيدا عن العسكر، وهو ما يفسر سعي كل الاتجاهات السياسية من هذه الأجيال نحو العسكر والاحتماء بظلهم عقب تنحي مبارك في فبراير (شباط)2011. فهي أجيال لم تر في حياتها سوى سلطة العسكر ولا تعرف غيرها.

كانت هذه هي الكارثة التي دمرت ثورة 2011 والكارثة الممتدة الآن حتى في ظل مبررات هزلية يسوقها بهاليل السلطة وأرجوزتاها، مثل مرتضى منصور ولميس جابر، المهم أنَ هناك سبباً يجعل المصريين لا يشعرون بالأمان إلا في ظل الحكم العسكري.

والحقيقة أن الفائدة الوحيدة من حالة الانقضاض الغبي على ثورة 2011 هي ظهور جيل من الشباب تخلص من عقدة العسكر غير مصاب بوهم وجود المعركة التي تحتم استمرار العسكر.

هم الأمل وهم الحل، وقريبا سيختفي شعار لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، أمام قوة غاضبة مهولة ستحرر الوطن تحت شعار «لا صوت يعلو فوق صوت الشعب».

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه