حكم التوقيع على استمارة تأييد السيسي

في الآونة الأخيرة ظهرت حملة في مصر عنوانها (كلنا معاك)، تدور كتيبة من كتائب السيسي على الموظفين في دواوينهم للتوقيع على ورقة تحمل الموافقة على وجود السيسي وتأييد ترشحه مرة ثانية لاغتصاب رئاسة مصر؛ علمًا بأن من يرفض التوقيع يتم تحويله للتحقيق، وقد يتعرض للفصل من عمله، أو الاعتقال، وهو أمر لا يستبعد بل يغلب على الظن حدوثُه في ظل حكم عسكري غاشم!

ويقع الموظفون الذين يعرفون حقائق الأمور وعندهم بقية من خير في حيرة شديدة: هل يوقعون على ورقة يشهدون بها شهادة زور مكرهين عليها ويستمرون في أعمالهم آمنين في سربهم، أم يرفضون التوقيع ويقفون موقفَ حقٍّ يترتب عليه الفصل من العمل أو الاعتقال؟

الحكم الشرعي

وقد تواصل معي كثيرون يسألون هذا السؤال: ما الحكم الشرعي للتوقيع، هل يقع في الإثم من يوقّع على هذه الورقة؟ وهل يرفض التوقيع ويترتب عليه من الضرر ما هو معلوم، لا سيما وقد تم تحويل البعض للشؤون القانونية عندما رفضوا التوقيع؟

وللجواب على هذه النازلة لابد من تقرير عدة أمور:

أولا: أن (الحاكم) الذي يُكره المحكومين على توليته عليهم لا تنعقد له بيعة؛ حيث إن الرضا مبدأ أصيل في العقود، فكيف إذا كان هذا العقد من العقود الكبرى والتي تبلغ من الأهمية أعلى المنازل وهو العقد بين الراعي والرعية؟ هذا في شأن الحاكم الذي جاء برضا الأمة، فكيف إذا كان هذا المُكرِه منقلبًا سفاحًا استولى على السلطة بقوة السلاح والقهر وانتزعها من رئيس له بيعة صحيحة في عنق الشعب لم تنحل حتى الآن؟

وموقف الإمام مالك من رفض طلاق المكره معلوم، تعريضا بعدم انعقاد البيعة السياسية بالإكراه؛ روى الطبري عن سعيد بن عبد الحميد بن جعفر قال: أخبرني غير واحد أن مالك بن أنس استفتي في الخروج مع محمد، وقيل له: إن في أعناقنا بيعة لأبي جعفر، فقال: إنما بايعتم مكرهين، وليس على مكره يمين، فأسرع الناس إلى محمد، ولزم مالك بيته. وسعيد بن عبد الحميد ثقة، وأبوه عبد الحميد بن جعفر كان من الذين خرجوا مع محمد بن الحنفية. وقوله حدثني غير واحد يدل على شهرة هذا الأمر عن الإمام مالك.  ويؤكده ضربه بالسياط لتحديثه  بأثر ابن عباس: “ليس على مستكره طلاق”. ومعنى هذا أن سقوط بيعة الإكراه وولاية التغلب كان أمرا مشهورا عنه. وروى البيهقي بإسناده عن حرملة قال سمعت الشافعي يقول: كان على المدينة الهاشمي فأرسل إلى مالك، فقال: أنت الذي تفتي في الإكراه وإبطال البيعة؟ فضربه مُجَرِّداً ثيابه حتى أصاب كتفه خلع. وكان من بأسه ـ رحمه الله ـ  أنه حين حمل على بعير وقيل له ناد على نفسك تشهيرا به، نادى: ألا من عرفني فقد عرفني، أنا مالك بن أنس، أقول: طلاق المكره ليس بشيء، فقال جعفر: أدركوه أنزلوه. (تاريخ الإسلام للذهبي: 4/ 729).

ثانيًا: أن هذا التصرف يحرم على من يقوم به، ممن يمارسون الإكراه على الناس في أمر غير جائز، والحرمة فيه مركبة وليست بسيطة، وكل مال يتقاضونه من هذا العمل هو سحت، يُنبتون به أجسادهم وأجساد مَن يعولونهم مِن حرام، (وكل جسم نبت من حرام فالنار أولى به)، ويستنزلون به غضب الله عليهم وعلى أسرهم وأولادهم، ويستجلبون به سخط الناس، ويستبقون به لأنفسهم العذاب الأليم يوم القيامة ما لم يتوبوا.

ثالثا: أن الإكراه من عوارض الأهلية التي تؤثر على أهلية الأداء عند المكلفين، وبخاصة إذا كان الإكراه تاما أو ملجئا كما هو مستقرٌّ لدى الأحناف، وهو الذي يشترط فيه باتفاق الأصوليين ثلاثة شروط: قدرة المُكرِه على إيقاع ما هدد به، وعجز المُكرَه عن دفعه، وغلبة ظن المكرَه أنه إذا امتنع عن الفعل أوقع المُكرِه ما هدد به. وهذه الشروط متحققة في هذه النازلة؛ وقد رفعت الشريعة الإسلامية الإثم والجناح عن المكرَه: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)  [رواه الطبراني عن ثوبان]. والله تعالى قال في ما هو أعظم من ذلك وهو ما يُخْرج من الملة باتفاق العلماء: (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان). فما أجازه الشرع للأعلى لا شك في جوازه للأدنى.

رابعًا: أن التصرفات القائمة على اكراه لا تنعقد ولا تكون نافذة، بل تقع باطلة لا يترتب عليها شيء، ولا ينعقد بها عقد، وأن جميع أفعال الإنسان لابد فيها من الاختيار حتى في أمر العقيدة، فلا يعقل أن يمتنع الإنسان عن تصرف فيه إكراه محقق يترتب عليه ضرر راجح كالذي نراه ونسمعه كل يوم!

خامسًا: أن الشريعة الغراء نفت الضرر بكل صوره، ورفعته بكل الوسائل، وقررت القواعد التي تضبط التعامل معه: منعًا، ودفعًا، ورفعًا؛ منعا حتى لا يتحرك من مكانه، ودفعا إذا تحرك وأراد الوقوع، ورفعا إذا نزل ووقع.. وما كانت الشريعة الغراء التي بنيت على التيسير وجلب المصالح ودفع المفاسد أن تسمح بإلحاق الضرر بالمكلفين في مقابل تصرف تحت الإكراه لن يترتب عليه شيء!

سادسًا: أن أحكام الشريعة الإسلامية جاءت بحفظ النفس، وحفظ المال، واستدامة الحياة الآمنة المستقرة، وأباحت الحرام القطعي للمكلفين إذا تهددت هذه الكليات أو ألحَق بها أيُّ تصرف ضررا من الأضرار، فكيف بتصرف يقع تحت الإكراه، وهو تصرف باطل بل محرم لن يترتب عليه شيء، ولن ينعقد به شيء؟!

***

بناء على ما سبق نقول بكل اطمئنان: إنه يجوز للموظف أن يوقِّع على هذه الاستمارة إذا وقَع تحت الإكراه، وكان مضطرا لذلك، أو ترتب على عدم التوقيع ضرر في نفسه أو ماله، أو معاشه أو معاده، أما رؤوس الناس ورموز الإصلاح فاللائق بهم الأخذ بالعزيمة حتى لا يضيع الحقُّ، وكي لا يُخيَّل للناس أن الحق أصبح باطلا والباطل أصبح حقًّا، وهذا لا يُعفي الجميع من تلمس السبل جميعا وسلوك الطرق كافة لمنع هذا الظلم ورفعه من المجتمع بالكلية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه