حكايات من بين العناوين

 

أن تختار في ما تريد الكتابة فيه من بين زحام الأحداث، يشبه وقوفك أحيانا أمام مكتبة زاخرة بالعناوين، وكأنها أبيات شعر نظمها صاحبها على مدار عشرات السنين من الجمع والتأليف والترتيب، والتغليس أحيانا على كتب الغير، وكما يقول أحد المثقفين (مغفل من يعير كتاباً، ولو زرت مكتبتي لما وجدت كتاباً لي)!

أحيانا كثيرة تكتفي بمتعة الاطلاع على عناوينها فقط. والكثير من العناوين يذكرك بحكايات واجبة الإسقاط على كثير من أحداث اليوم..

كذلك حكاية هذا المقال الذي وعدت أن انجزه قبل صلاة الفجر فقد تعود مني هذا الوقت. والعناوين والهواجس كثيرة.. وما لم أجد له تفسيرا هو ميلي للأدب والشعر منذ بداياتي ولم أكتب فيهما إلا على سبيل الاستدلال والاستشهاد. ربما خشية من قساوة النقاد الأدبيين وأتذكر الكثير منهم كان شعاره النقد لأجل النقد والتحطيم.. عموما التوفيق لم يحالف الكثيرين منهم.

أحب الشعر كثيراً وأهتم بمناسباته وأغراضه وأزمانه وأعتبر ألوان الأدب أوسع من نطاقها المتعارف عليه، ومساحاتها عندي مفتوحة ومتداخلة. الفكر والسياسة والرياضة والفن كلها آداب.

الحكاية الأولى

لا أحب الأشياء الماكثة في أماكنها ودوائرها المحدودة فمن جميل قول سيدنا الإمام الشافعي رحمه الله:

والتبْرَ كالتّرْب مُلْقى في أَمَاكنهِ *** والعودُ في أرضه نوعً من الحطب.

فإن تغرَّب هذا عزَّ مطلبهُ *** وإنْ تَغَرّبَ ذَاكَ عَزَّ كالذّهَب

هي أبيات وأدبيات صيغت لكل وقت، أراها اليوم مثلا، مناسبة لحال لاعب كرة القدم المحترف (بسام الراوي) القطري الجنسية عراقي الأصل الذي حسم الفوز لصالح بلد جنسيته المكتسبة (قطر)، ذلك البلد الذي أعزه وأعز والديه وأفراد اسرته. ضد بلد الآباء والأجداد (العراق).

هي حكاية الانتقال والمغادرة وهي أيضا حكاية ترك الأماكن والبلدان وهجرها عندما تتعطل العدالة ويتمرد الطغاة، ويتقلد أراذل الناس مناصبها، ليعود شاهدنا قول الشافعي أيضا:

 والأسدُ لولا فراقُ الأرض ما افترست *** والسَّهمُ لولا فراقُ القوسِ لم يصب.

في مجتمع ارض الله الواسعة (الهجرة) هناك اختلاف كبير في التصور والرؤى ومعها تختلف تفسيرات الأحداث والأشياء. فكرة القطرية والعشائرية والقبائلية والعرقية والطائفية والأشياء المتضخمة داخل بلدان العرب أوطاني تكاد تذوب، لذلك قد تبدو الأمور مختلفة ولا يهم كثيرا إن جاء الهدف أو (الجون) كما يقول المصريون في مباراة العراق وقطر بأقدام زيد أو عبيد. الفرق بين المهاجر والمرابط هو ذلك القيد الذي يفرضه الطغاة المستبدون على مواطني الداخل. فيما المهاجرون خارج بلدان القمع كأن لسان حالهم يردد قول أمرؤ القيس الذي استجار (بالمُعَلّى بن تيم) ليحميه ويؤمنه من بطش المنذر ابن ماء السماء.

كأني إذ نزلـــــتُ على المُعَلّـــى   *** نزلتُ على البواذخ من شَمام

فما مَلكُ العراق على المُعَلّى   *** بمقتــــــدر ولا ملــــكُ الشــــآم

 

الحكاية الثانية

في جولة مسير في أحد شوارع الفاتح بإسطنبول، مع أحد الأصدقاء المهاجرين من إحدى ديار القهر وقد تشعب الحديث الغارق في الماضي. كان يروي ذلك الصديق معاناته وأسرته داخل بلده حتى وصوله الى إسطنبول تاركا بلده وأحلامه هناك. كنت استفسر منه عن فرصة عودته. وقبلها قرأ في عيني سؤالا!! لماذا رحلت؟

وفضل الإجابة بقول مالك الملك: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ. قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ. قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا. فَأُولَٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ. وَسَاءَتْ مَصِيرًا).

أما أنا فتذكرت تلك اللحظة وقوفي أمام مكتبة والدي رحمه الله في العراق الذي غادرته قبل 15 عشر عاما. وكانت من أجمل اللحظات حين تقف أمام عناوين الحياة وليس عناوين الكتب. ولا أدرى إن كان ذلك الكتاب مازال موجودا أم لا، وهو كتاب جامع لأمثال الأمم والشعوب كنت أستمتع في قراءات سريعة من ذلك الكتاب وقد اعجبني في حينها (مَثلٌ) ينسب الى موروث القول في بلاد الشام يقول (الخط الأعوج من الثور الكبير) كناية عن أن المسؤول الأول والأخير عن الاعوجاج الحاصل في بلداننا على كل المستويات، هم كُبّارها وسلطاتهم المعوّجة.

نعتقد أن جيلا يتجدد وحركة وعي تدرك لحظة التغيير وإذا كان لكل شيء ثمن، فثمن الدماء والتشرد والتهجير والقهر لا يخطئ حالة النصر الأكيد.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه