حكايات عقائدية من دفتر الطفولة والشباب

يبدو أنه عام الابتهاج والبهجة في إسرائيل فبعد إعراب نتنياهو عن سعادته بتوصله إلى اتفاق بتصدير بِلاده 64 مِليار مِتر مكعب من الغاز الطبيعي إلى مِصر لمدة عشر سنوات، وبِقيمة تصل إلى 15 مليار دولار، احتفلت إسرائيل منذ أيام بمرور أول رحلة إليها عبر الأجواء السعودية في الوقت الذي تغلق فيه السعودية مجالها الجوي في وجه الطيران القطري.!!!

والقضية ليست قضية حرب وسلام ولكنها قضية مفاهيم وحقائق تحتاج لوضع النقاط فوق الحروف حتى لا يتم تزوير التاريخ وتشويه الحقائق وإرباك الأجيال المتعاقبة كما هو حادث الآن.

العقيدة الراسخة

سأروي لكم قصة واقعية من دفتر الطفولة قد تبدو في بدايتها خارج السياق ولكن مضمونها يشكل جزءا كبيرا من صلب موضوعنا.

عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية كانت لدينا هوايات جمع مجلات الأطفال مثل ميكي وسمير وسوبرمان وغيرها وكان التنافس على أحسن المجموعات وأقدم الأعداد، وشاع وقتها سرقة المجلات لذا كان كل شخص يضع علامة على مجموعته لتميزها، وانتشرت علامات النجوم، شخص يستخدم نجمة وشخص يستخدم نجمتين بأشكال مختلفة، وعندما بحثت عن علامة غير مستخدمة لم أجد سوى النجمة السداسية فوضعتها على مجموعتي التي كانت أكبر مجموعة في المدرسة، وفجأة شعرت بتغير سلوكي من زملائي تجاهي لم يكن عدائيا ولكنه كان يحمل درجة من الحذر والاندهاش والاستفسار، خاصة وأنني كنت من أصحاب الشعبيات العالية بين كل الفصول الدراسية.

 واستدعتني ناظرة المدرسة وسألتني برفق عن هذه العلامة، فقلت لها عشان المجلات ما تتسرقش فسألتني أنت عارف دي نجمة مين؟، ولأني كنت «عيل غلباوي» قلت لها «زي كل النجوم يا أبلة بتاعة ربنا»، فضحكت وطلبت مني استدعاء ولي أمري.

لم يكن أبي من ذوي الثقة في شخصي فقد أوقعته في العديد من المشكلات منذ نعومة أظفاري فتوجس من الاستدعاء وحاول الاستفهام مني فلبست ثوب «العبيط» لكي أهرب من المواجهة، وذهب أبي للمدرسة وشرحت له الناظرة أنني أضع نجمة داود (وكان الشائع أن اسمها نجمة إسرائيل) على المجلة، وهنا تحول قلق أبي إلى رعب وارتباك، خاصة في ظل مناخ الستينيات فقد كان أي تأويل لهذا الأمر كفيلا بأن يذهب بالأسرة كلها وراء الشمس حيث المعتقلات الأبدية، فقرر أبي في هذه اللحظة ولأول مرة أن يستفيد من خبراتي كطفل غير خالص النية فلبس ثوب «العبيط» هو الآخر وفغر فاه وأخذ يضحك ويضرب كفا على كف وألقى بالمسؤولية على المدرسة وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله آدي عيب أن المدارس متهتمش بالتربية الوطنية، كان لازم المدرسة تعلمه، أنا لازم أبلغ الجهات المسؤولة…. ولادنا في خطر»، وما أن سمعت الناظرة كلمة جهات مسؤولة من أبي حتى ركبها عفريت جن مرعوب، فلا أحد في هذه الحقبة كان يتوقع ردود الأفعال الرسمية، وقالت لأبي «ماتكبرش الموضوع إحنا نكثف معاه شوية معلومات وحضرتك ريح نفسك أنا كنت عايزه اتعرف بحضرتك بس»، وبعد عدة تمنعات من أبي انتهت المقابلة بسلام، ولكنها لم تنته بالنسبة لي فقد كثف كل من البيت والمدرسة دروس ومحاضرات التلقين حول إسرائيل ومعنى الكيان الاستعماري والصهيونية وأزلية الموقف الصحيح الذي يلزمنا بعدم الاعتراف بهذا الكيان لأنه لا وجود له طبيعيا وإنما وجوده استعماري كأي عصابة مغتصبة للأراضي، والحق حتما سيرجع لأصحابه….إلخ، كل هذه المعاني سيقت لي بلغة بسيطة وصادقة ورائعة لم تفارق وجداني وعقلي وأصبحت جزءا من عقيدتي حتى الآن.

أما اليوم فعندما أخاطب أجيالا صاعدة أشعر بارتباك مفاهيم عندهم فمن السهل عندهم وصف بلد عربي مثل العراق أو قطر أو بلد صديق تحكمنا معه تقاطعات تاريخية مثل تركيا بالبلد الخائن والصراع والتأكيد على أن بيننا وبينهم صراعا أزليا؟؟!! والتعامل مع الكيان الصهيوني المتمثل في إسرائيل باعتباره دولة مجاورة، والتأكيد على أن الخلافات بيننا وبينها خلافات طبيعية في ظل صراع الحضارات؟!!! وغض النظر عن تاريخ نشأة هذه الدولة وطبيعتها الاستعمارية الاستيطانية وأهدافها التوسعية وإجرامها الذي طال كل المنطقة العربية والممتد حتى الآن.

أمن مصر

منذ سنوات ربما كانت طويلة التحقت بدورة تدريبية في المجلس الأعلى للصحافة ضمن عدد من الصحفيين يمثلون معظم الصحف المصرية، وكانت تشمل عدة محاور يتم تفاعلنا معها خلال الدورة الممتدة لمدة شهر، وكان من ضمن هذه المحاور محور عن الأمن القومي المصري يحاضرنا فيه محاضر من المخابرات العامة ربما كان ضابطا أو مدنيا، وتحدث معنا عن أن المخاطر على الأمن القومي لمصر يمكن أن تحدث من الحدود الجنوبية، فناقشته معترضا في هذا الأمر متمسكا أن الخطر الأكبر على الأمن القومي المصري من الحدود الشرقية حيث الكيان الصهيوني، وكان محاضرا واسع الصدر ناقشني مناقشة طويلة مؤكدا أن العدو الصهيوني هو خطر دائم ومعروف في المنطقة العربية، وهذه العقيدة لا تهتز بالاتفاقات السياسية والمعاهدات، وكان كلامه يحمل طمأنينة لنا بأن الصهيونية ستظل عدوا لنا حتى تزول، ثم انتقل إلى أهمية الحفاظ على العلاقات مع الجنوب حيث النيل شريان الحياة، مؤكدا أن العدو الصهيوني لا يقصر نشاطه على المواجهة المباشرة في الشرق فقط، وإنما من الممكن أن يحاول إرباك مصر بالسيطرة على منابع النيل في الجنوب من خلال المكائد والمؤامرات ما لم تحكم مصر قبضتها على العلاقات المصرية الأفريقية وتضمن وحدة الدول الأفريقية، وكان كلام الرجل يحمل ضيقا ضمنيا من ضعف الدبلوماسية المصرية والعلاقات المصرية الأفريقية في هذه الفترة ويحذر من انهيارها، وهو ما حدث الآن وانتقلت المواجهة الصهيونية من الشرق في حركة التفاف خبيثة إلى الجنوب وإثيوبيا حيث منابع النيل وساهم الكيان الصهيوني مساهمة مباشرة في مشروع سد النهضة، بينما السياسة المصرية تحضن الوجود الصهيوني في الشرق وتدعمه مقابل أن يضمن بقاء النظام الحاكم في مواجهة أي محاولات للتغيير الثوري بعد عام 2011. والأمر هنا يتعلق بالتغير المتعمد لرؤيتنا للعدو الصهيوني وتحول تعريفه من كيان استعماري استيطاني عنصري توسعي يجب إزالته أو على الأقل تجميد نشاطه التوسعي ومحاصرته، إلى تعريف جديد يستند إلى النظر لإسرائيل باعتبارها دولة مجاورة قد نختلف أونتفق معها.

الوحدة العربية

والكيان الصهيوني ليس مجرد عصابات تستند إلى البلطجة بل هو كيان يمتلك مفكرين من كل يهود العالم وله مصالح مع كبرى الدول الإمبريالية لذلك فهو كيان يجيد التخطيط المستقبلي لتحركاته التوسعية والتمهيد له، وبعد إدراكه لمدى خطورة الوحدة الأفريقية والوحدة العربية على وجوده، خطط للقضاء على الأولى من خلال استغلال ضعف الدبلوماسية المصرية في أفريقيا بعد موت جمال عبد الناصر، والتي كانت تمثل العمود الفقري لوحدة الدول الأفريقية، ونجح في الهيمنة على جنوب القارة السوداء من خلال المؤامرات والمكائد والدسائس ومساعدة الدول الاستعمارية.

أما في المنطقة العربية فقد كان الأمر سهلا يعتمد في الأساس على تغيير تركيبة نظم الحكم في بعض الدول المحورية مثل مصر والعراق وسوريا والسعودية وتحويلها إلى نظم طبقية مستغلة لشعوبها، ثم ربط هذه الأنظمة ومستقبلها برضاء الكيان الصهيوني حتى يمكن تحريك هذه الأنظمة كالدمى تجاه مصالحها، وفي خط مواز تبدأ خطط الوقيعة والدسائس بين الدولة لتحويل كل طاقة المشاعر الوطنية للشعوب من العداء التاريخي للصهيونية لعداوات جديدة بين الدول العربية بعضها بعضا.

وأختم مقالي بمثل توضيحي من الستينيات عن طريق رواية رواها لي الراحل فريد عبد الكريم أحد أهم الشخصيات القيادية فترة الحكم الناصري.

كان جمال عبد الناصر من المؤمنين بأن كل المخاطر التي تحيط بمصر والمنطقة العربية لا يمكن مواجهتها إلا من خلال الوحدة العربية التي كان يتمسك بها طوال الوقت، وحدث أن مرت أزمة بالعلاقات المصرية القطرية وكان حاكم قطر من أكبر الداعمين لمصر، وكانت الأزمة بسبب لجوء أحد المعارضين لجمال عبد الناصر لقطر، وطلب «ناصر» من حاكم قطر تسليمه الرجل فرفض حاكم قطر تسليم شخص لجأ إليه، ولكي يتجنب الأزمة منحه الجنسية القطرية، وهنا ارتفعت أصوات بعض المستشارين لجمال عبد الناصر تطالبه بمواجهة حاسمة مع قطر، فرفض عبد الناصر بشدة مؤكدا أن العلاقات المصرية مع أي دولة عربية أهم من أي خلاف، وأن أي خلاف بين دولة عربية وأخرى يصب في صالح الصهيونية.

فرق بين أنظمة حكم تدرك وتواجه بصدق التحديات التي تواجه شعوبها، وبين أنظمة تخلق عدوا وهميا لكي تبرر خيانتها وتحالفاتها مع العدو الحقيقي… وبعد أن كانت الصهيونية هي الخطر الذي نتحد لمواجهته تم اختزال أعداء الوطن في تعبير ركيك ماسخ عام هو «أهل الشر» والذي يمكن أن يكون أنا أو أنت أو أي دولة شقيقة لاتتفق مع مصالح دوائر الحكم الخائنة في بعض الدول

الوعي قد يرتبك ولكنه لا يزول ولا يفنى ولهذا لم نفقد الأمل أبدا في عودة الوعي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه