حكام الابتزاز والصناديق السوداء

 

 

الاستجابة لمقايضة المبدأ والموقف مقابل الكشف عن أسرار في حياتك الشخصية ليس لها إلا معنى واحد وهو أن مواقفك وعقيدتك ضعيفة ومهتزة، فالمبدأ والعقيدة والموقف محددات في الحياة يجب أن تتقدم على أى محددات أخري، ولا يتقدمها في الأهمية أى أمر آخر، لهذا فالشخص قوي العقيدة والمبدأ والموقف لا يخضع للابتزاز والمساومة عليها مقابل التهديد بكشف سر من أسرار حياته حتى لو كان به عوار  أخلاقي .

يُروى عن قائد لمقاومة شعبية في وطن محتل أنه أكتشف أن أحد المقاومين يعمل لحساب العدو فشكل له مجلس محاكمة انتهى إلى إثبات التهمة عليه والحكم بإعدامه، وطلب الخائن مقابلة القائد لتفسير سبب خيانته، وفي المقابلة كشف له أنه مصاب بشذوذ جنسي رصده الأعداء وصوروه وساوموه بالصور، فإنهار وتعاون معهم، وطلب الرحمة من القائد الذي قال له لو كنت تعرضت لضغط بدني أو خطف أحد من اسرتك أو شيء من هذا القبيل ربما كنت قد فكرت في العفو عنك، ولكني سأنفذ حكم الإعدام لأنك قدمت شرف مؤخرتك على شرف قضية بلادك.

والشاهد أن شرف الوطن والعقيدة والمبدأ أمور لا تخضع للمساومة مهما كان الأمر.

جذور الابتزاز قديمة

الحقيقة المؤسفة أن جذور الابتزاز السياسي بكشف أسرار الحياة الشخصية أو تشويه الأخلاق قديمة وخاصة في المجتمعات الشرقية، ولكنها تظهر بوضوح لدى الأنظمة الحاكمة الفاشلة التي لا تستطيع تقديم أى مبرر لوجودها، أو الأنظمة التي تتعرض لمواجهات مع شعبها في مواقف ما فتسعى للسيطرة على الشعب بوسائل كثيرة أهمها القمع والابتزاز والتشهير، أو كما يطلق عليها عوام المصريين «كسر العين».

في بداية التسعينيات شهدت الحكومة المصرية ارتباكات بسبب زيادة حدة الحوادث الإرهابية في مصر، وتزامن معها ازدياد ضغط المعارضة المصرية وتحميل سياسات الحكومة مسؤولية انتشار الإرهاب وخاصة وزارة الداخلية لما تتبعه من أساليب قمعية تسببت في ازدياد ظاهرة الإرهاب، ولجأ وزير الداخلية آنذاك إلى أسلوب تشويه المعارضين وتلفيق القضايا والتهم ونشر الشائعات الأخلاقية حولهم مما استفز تيارات المعارضة المصرية، ووصل الأمر إلى تراشق بالأيدي داخل مجلس الشعب بين نواب ووزير الداخلية عندما تناول سيرة فؤاد سراج الدين رئيس حزب الوفد وإحدى قريباته بسوء ووجه لهم اتهامات أخلاقية، ويبدو أن هذا الأسلوب راق للنظام المصري فترك له الحبل على اتساعه إلا أن الوزير تجاوز السقف لتطول بذاءته زوجة شخصية مهمة في الدولة فيتم إقالته.

والحقيقة أن هذا الأسلوب كما قلت لا يتعلق بالتاريخ الحديث، فعندما زار هيردوت اليوناني مصر وقت زاد فيه عداء اليونانيين لمصر كتب كمؤرخ عن الأهرامات وتعمد تشويه الحياة العقائدية المصرية والتي دفعت المصريين لبناء الأهرام بدوافع دينية، فذكر أن خوفو طلب من ابنته ممارسة البغاء، فكان يعطيها كل رجل الحجارة لاستكمال بناء الهرم!!!! وهو ما نفاه التأريخ المنطقي للحياة الاجتماعية في مصر الذي رصده المؤرخون وخبراء الأثار وعلماء المصريات، والشاهد أن اليونايين تعمدوا تشويه المصريين بهذه الشائعة الأخلاقية بهدف كسر هيبة المصريين الذين كان يؤروقهم في الفترة التي زار فيها هيردوت مصر.

ونفس جولة التشويه حدثت عند التأريخ لكليوباترا ووصفها البعض بالعاهرة، ولم تسلم زوجات الرسول ﷺ، عندما تعمد المنافقون الإساءة إلى عائشة أم المؤمنين ابنة الصديق أبو بكر وزوجة الرسول محمد ﷺ ودس أحاديث عليها، وبالطبع كان الغرض هو النيل من الدين الإسلامي وإضعاف قوة المسلمين الصاعدة.

والمشترك بين كل الأزمان أن التركيز الأكثر للتشهير والشائعات على الأعراض والأخلاق وخاصة ما يتعلق بالجنس والفجور، ويبدو أن هذا إقرار ضمني وتاريخي بأن الجوانب المتعلقة بالأعراض والأخلاق والجنس هي الأمور الأكثر تأثيرا على معنويات الجماعات البشرية.

الواقع المتردي

ورغم حديثي عن قدم أسلوب التشهير وابتزاز الأنظمة والحكومات للمعارضين، إلا أن حدة استخدام الأسلوب اختلفت من فترة لأخرى ونستطيع أن نقول: إنها وصلت إلى أقصاها في مصر الآن وآخرها الانتقام من البرلماني خالد يوسف لرفضه تعديل الدستور وابتزازه بتسجيلات لعلاقات جنسية خاصة له، ونسى النظام أن الرجل كان المخرج البارع لمشاهد 30 يونيه التي اعتبرها السيسي الثورة التي رفعته لكرسي الحكم، ولكنها الديكتاتورية ضيقة الصدر، بالإضافة إلى إحالة البرلماني المعارض هيثم الحريري للتحقيقات بتهمة التحرش الجنسي في مكالمة مسجلة، وبالطبع لم تكن هذه هي الحالات الأولي فقد سبقها كثير من التشويهات والبلاغات التي يقدمها رجال النظام ضد المعارضين وينشر أخبارها إعلام النظام ويكون الغرض منها التشهير، ومن أشهر أدوات التشهير التي استخدمها هذا النظام في بدايته وكانت مؤشرا لتوجهه في استخدام هذه السياسة هو برنامج الصندوق الأسود  للصحفي عبد الرحيم علي وهو أول برنامج تلفزيوني في العالم يعتمد على نشر مكالمات المعارضين التي يسجلها لهم الأمن، ومن المعروف أن مثل هذا الإجراء يعتبر جريمة في العالم كله يعاقب عليه القانون بل يمكن أن يطيح بحكام مثلما حدث مع الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترجيت عام 1974.

وكما ذكرت فأن هذا الأسلوب وصل إلى أقصى درجة له في الفترة التي نعيشها حتى إن القضاء تورط في المشاركة فيه بعد استجابته للبلاغات التي تتعلق بالحياة الشخصية، وكان من قبل منزها عن الخوض في مثل هذه الأمور واتذكر أنه أثناء محاكمة ناشط سياسي في قضية سياسية في السبيعينيات أن أرفقت المباحث ضمن تحرياتها شريطا صوتيا للسياسي أثناء ممارسته علاقة خاصة مع سيدة، وبعد دقائق من تشغيل الشريط في المحكمة أمر القاضي بإيقاف التسجيل وسأل النيابة مستنكرا عن علاقة هذا التسجيل بالقضية، وأعطى النيابة درسا قاسيا قويا في احترام الحريات الشخصية واستبعد الشريط تماما من القضية، وهذا ما نفتقده الآن من قيم في القضاء!

والحقيقة أن نظم التشهير لا تستخدم خلافات فرق المعارضين مع بعضهم في نشر الشائعات عن بعضهم وتداول قصص التشهير فقط بل أيضا تستخدم بعض المتدينين بدعوى حماية القيم والأخلاق الحميدة والمجتمع من العيب، بينما يكون الغرض الرئيسي هو أضعاف المعارضين لها وتخفيف ضغوط تيارات المعارضة والتغيير، والحقيقة أن بعض المعارضين المتدينيين يمارسون نشاطهم السياسي بسذاجة تصب في مصلحة النظام الفاشي حيث يخلط هؤلاء بين الموقف الأخلاقي الشخصي والموقف السياسي ويمارسون الدعايات الأخلاقية كأدوات للخلاف السياسي وهو ما يخلق حالة من التماس بينهم وبين سلوك التشهير بالمعارضين الذي تقوم به السلطة، مع أن موقف الرسول لم يكن كذلك، فلم نسمع أن الرسول قد روى عن أبي لهب مثلا أو غيره ما يتعلق بحياتهم الشخصية، بل كان واضحا في تحديد محددات الصراع والاختلاف، وحتى في خلافه مع الأديان الأخرى وخاصة اليهودية لم يستخدم سلاح التشهير الأخلاقي والتدخل في الحياة الشخصية، فما بالنا والأنظمة الفاشية الآن تستخدمها تجاه معارضين لأسلوب الحكم في فجر لم تره الإنسانية من قبل، وفي نفس الوقت الذي يصرخ رأس النظام برفض الخطاب الديني الردايكالي وخاصة ما يتعلق بعدل الحاكم ومواصفاته، يلجأ نظامه للمفردات الدينية في إثارة الغضب الشعبي تجاه المعارضين بعد كشف أمور خاصة من حياتهم الشخصية.

الخلاصة أننا أمام نظام فاشي فاجر في الخصومة كاذب في حديثة في مواجهة سهلة مع معارضة تحكمها المصالح الضيقة والشخصنة.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه