حقيقة ما يجري في ماليزيا

 

يتم طرح الكثير من الأسئلة والتكهنات حول حقيقة ما يحدث في ماليزيا هذه الأيام، ويتساءل البعض عن الأسباب التي أدت إلى أن يقدّم مهاتير محمد استقالته من رئاسة الوزراء مجدداً، بعد أن قدّمها عام 2003م، قبل أن يعود للسلطة مرة أخرى عام 2018م.

الجواب باختصار، هو أن هذا نتيجة وجود أحزاب وشخصيات سياسية تتنافس على تشكيل الحكومة ورئاستها بشكل دستوري وقانوني. وقد حرصت خلال الأيام الماضية على كتابة مقال لتسليط الضوء على الخلاف الذي استجد، إلا أن مجريات الأحداث أتت متعاقبة ومتسارعة، وكنت كلما أكاد أفرغ من كتابة المقال يستجد حدث آخر يجعل ما كتبت غير متناسق مع الواقع، مما يضطرني إلى البدء من جديد، فمهارة الوصف والتحليل السريع هو ما يتميز به الصحفي المتمرس، أما الباحث الأكاديمي فغالباً ما يفتقد هذه الميزة.

المشهد السياسي

نعلم جميعاً أنه لم يكن لمهاتير محمد المقدرة على العودة لرئاسة الوزراء في انتخابات عام 2018م، لو لم يقم بالتحالف مع خصوم الأمس، ومن أبرزهم أنور إبراهيم، فالهدف من دخوله هذه الانتخابات كان إسقاط حكومة نجيب عبد الرزاق، الذي كانت توجه له الكثير من تهم الفساد السياسي والمالي بعد أن بقي في الحكم حوالي عشر سنوات. عبد الرزاق كان يمثل حزب “أمنو” (UMNO) الحزب الحاكم منذ استقلال ماليزيا عام 1957م. وهو الحزب الذي كان ينتمي له مهاتير محمد، قبل أن يؤسس حزب “بيرساتو” (Bersatu) عام 2016م، والذي كان يرأسه محي الدين ياسين، العضو السابق في حزب أمنو ونائب رئيس الوزراء سابقاً في حكومة نجيب عبد الرزاق، قبل أن يتم إعفاؤه من المنصب وطرده من الحزب عام 2015م إثر مساءلته واعتراضه على سياسات عبد الرزاق، خصوصاً بعد ظهور تهم الفساد المالي والاختلاس للعلن.

أي أن محي الدين كان رفيق مهاتير محمد في مواجهته الانتخابية الشّرسة ضد حكومة نجيب عبد الرزاق، وحزب أمنو؛ من خلال حزب بيرساتو والتّحالف الذي تم تشكيله مع حزب أنور إبراهيم المسمى “حزب العدالة” أو (PKR)، بالإضافة إلى أحزاب أخرى مثل حزب “أمانة” (Amanah) الذي أسّسه بعض المنشقين عن حزب “باس” (PAS) الإسلامي، الخصم الكلاسيكي والقديم لحزب أمنو، وكذلك “حزب العمل الديمقراطي” (DAP) والذي أغلبه مواطنون ماليزيون من أصول صينية، وغير ذلك من الأحزاب. هذا التحالف عرف باسم تحالف الأمل (PH)، وكان الاتفاق الأهم الذي تم التفاهم عليه، وعلى أساسه تم تشكيل هذا الإتلاف؛ هو أن يقوم مهاتير محمد بالتنازل عن منصب رئيس الوزراء لأنور إبراهيم بعد عامين من تنصيبه في حال فوزه في الانتخابات.

وهذا ما تم بالفعل، فقد حظي تحالف الأمل بأغلبية مقاعد البرلمان الماليزي نتيجة لانتخابات عام 2018م، (121 مقعد من أصل 222 مقعد)، وبهذا أمكنه تشكيل حكومة يرأسها مهاتير محمد، على أساس أن يتنازل لأنور إبراهيم بعد عامين من تاريخ توليه المنصب الجديد.

 مطالبة بالتنحي

باشر مهاتير منذ توليه رئاسة الحكومة بعمل الإصلاحات التي وعد بها الشعب الماليزي، فشكل حكومة من أحزاب مختلفة على خلاف ما تعوده الماليزيون من رؤية وزراء ينتمون لحزب أمنو أو الأحزاب المتحالفة معه، كما قام باستصدار الأوامر القضائية لكي يباشر بمحاكمة نجيب عبد الرزاق، وقام كذلك بتعيين المحامية والقانونية لطيفة كويا رئيساً لهيئة مكافحة الفساد الماليزية (MACC)، لما عُرفت به من صرامة وقوة في مكافحة الفساد -حسب وصفه لها-، كما قام بإيقاف بعض المشاريع التي كان يَعتقد أنها تعود بالخسائر على الحكوم، خصوصاً بعض المشريع التي تمكّن دولاً أجنبية -كالصين- من تملك أصولٍ وعقاراتٍ ماليزية، كما قام بإلغاء ضريبة السلع والخدمات التي كانت أكثر ما ينتقده المواطن الماليزي في حكومة نجيب عبد الرزاق.

ومع أن نتائج هذه الإصلاحات بدأت تظهر لكن بشكل بطيء، إلا أنه كان من الطبيعي أن تسمع من بعض الماليزين شكاوى وانتقادات بأن مهاتير لم يقدّم الكثير بعد، وأنه لم يغير الوضع كما توقع الجميع منه. إلا أن الموضوع الأبرز، والذي تسبب في الخلاف الذي حصل هو ظهور أصوات تطالبه بالاستقالة وتسليم الحكومة لأنور إبراهيم كما سبق وأن وعد.

بدأت هذه الأصوات بالظهور في نهايات العام 2019م، وبالتحديد في شهر نوفمبر/تشرين الثاني، وزادت حدتّها بعد انعقاد قمة كوالالمبور المصغّرة في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي. كانت هذه الأصوات تشكك بمصداقية مهاتير وتتكهن بأنه لن يفِ بوعده، وأنه سيستمر حتى إكمال فترة أربع سنوات كاملة من الحكم.

لعل بعض التصريحات التي أدلى بها مهاتير، مثل قوله أنه لا يزال بحاجة إلى مدة أطول لإخراج البلاد -المثقلة بالديون- مما هي فيه من مشاكل، وكذلك تصريحاته بأن الشعب الماليزي قد لا يرغب بأنور إبراهيم رئيساً للوزراء، وأخيراً تصريحات بأنه سيتنازل عندما يرى أن الوقت مناسب لذلك، فلعل مثل هذه التصريحات قوّت من هذه التكهنات وزادت من حدّة الأصوات المطالبة له بتحديد موعد التنحي.

إلا أنه في مقابلة مع وكالة رويترز، قبيل انعقاد قمة كوالالمبور المصغرة، أي فترة ظهور هذه الأصوات، صرّح مهاتير بأنه سيقدم استقالته ويفي بوعده بعد انعقاد منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ (APEC)، أي في نوفمبر/تشرين الثاني من العام الحالي، وقال أنه بغض النظر عما ستؤول إليه الأوضاع بعد تسليم الأمر لأنور إبراهيم، إلا أنه قد ألزم نفسه بوعد، وسيفي به دون أدنى شك.

يرى البعض أن سبب اختيار هذا الموعد، هو حرص مهاتير على نجاح هذا المنتدى كون ماليزيا أحد الدول المؤسسة له، وكذلك رغبة منه في أن يختم مشواره السياسي بالمشاركة في حدث عالمي بحجم هذا المنتدى. ثم إنه بالحسبة الدقيقة، يمكننا القول أنه لو قام مهاتير بالتنحي في هذا التاريخ، فإنه سيكون قد زاد مدة ستة شهور عن الموعد المفترض، فقد تم تنصيبه رسمياً في مايو/أيار عام 2018م، ومدة عامين تنقضي في مايو من هذا العام. وهذا يعني أن هذه الأصوات التي ظهرت قد سبقت المدة المحددة لاستكمال العامين، وقد أدّت إلى تأزم الأمور بدلاً من جعل الانتقال سلساً وخالٍ من الأزمات.

كان أنور إبراهيم خلال هذه الفترة ينادي بالتمهل والتروي، وكان في تصريحاته الرسمية يدعو إلى عدم ممارسة الضغط على رئيس الوزراء، وانتظار رغبته في تحديد المدة المحددة. ولعله كان يدرك أنه ليس في مصلحته التصادم مع خصمه السابق مجدداً، إلا أن الصحافة المحلية تدعي أن أنصارَه ومؤيديه هم من كان وراء هذه الضغوط وانتشارها.

ليلة الشيراتون

 تطورت الأحداث خلال الشهر الماضي، وأدت هذه المطالب إلى ظهور نزاعات وخلافات حادة داخل تحالف الأمل الحاكم، ففي ليلة الجمعة الموافقة 23 من شهر فبراير/شباط المنصرم، وصلت الخلافات إلى مرحلة جديدة.

تذكر صحيفة نيو سترايت تايمز المحلية أنه تم انعقاد اجتماع في هذه الليلة بين أعضاء تحالف الأمل، بما فيهم مهاتير محمد، هذا الاجتماع انتهى بالتوتر والنزاع الحاد بين أعضاء التحالف، فتنسب إلى كل من أزمين علي، نائب أنور إبراهيم في رئاسة حزب (PKR)، -والذي كان على خلاف حاد مع أنور إبراهيم-، وكذلك إلى مازوكي يحيى، السكرتير العام لحزب بيرساتو، تنسب الصحيفة إليهما أنهما لم يكونا راضيين عن طريقة تخاطب وتكلم البعض مع رئيس الوزراء، وممارستهم الضغط عليه بسرعة تقديم الاستقالة، كما تنسب إليهم قولهم أن طريقة التحدث التي أظهرها البعض لم تكن لائقة بحق رجل تسعيني، بالإضافة إلى كونه رئيساً للوزراء.

وفي يوم الأحد التالي، انعقد اجتماع في فندق الشيراتون، بين قادة تحالف الأمل، غاب عنه مهاتير محمد، وأعلنت فيه الانشقاقات وخروج البعض من التحالف، وتغير في الولاءات، وهو ما أدى إلى انهيار التحالف رسمياً. وفي اليوم التالي قام مهاتير بتقديم استقالته للملك عبد الله رعاية الدين المصطفى بالله شاه، وهو بهذه الخطوة يضع ملك البلاد الحالي أمام ثلاثة خيارات: إما أن يقوم بحل البرلمان، ويدعو إلى انتخابات برلمانية مبكرة، وهو أمر مستبعد، لوجود بدائل أقل كلفة مادية وسياسية. والخيار الثاني أن يقوم الملك بتكليف أحد أعضاء البرلمان بتشكيل الحكومة، وهو بحاجة إلى أن يختار من يحظى بأغلبية في البرلمان، أما الخيار الثالث فهو تكيلف مهاتير نفسه بتشكيل حكومة مؤقتة. والخيار الثالث هو ما تم اختياره فعلياً، حيث قبل الملك استقالة الحكومة، وكلف مهاتير بتشكيل حكومة مؤقتة، لاقتناعه بأنه يملك تأييد الأغلبية في البرلمان.

ولكن، أثناء محاولة مهاتير تشكيل الحكومة المؤقتة، كان الملك يقوم بإجراء مقابلات فردية مع كل أعضاء البرلمان البالغ عددهم 222 نائباً، وهو أمر يحدث لأول مرة في تاريخ ماليزيا. يرى البعض أن الملك كان يريد أن يقف على حقيقة من يملك الأغلبية فعلاً، ومعرفة ما إن كان مهاتير سيتمكن من النجاح في تشكيل الحكومة المؤقتة أم لا.

وفي هذه الأثناء أعلن مهاتير عن رغبته في تشكيل حكومة وحدة وطنية، مبنية على الكفاءات لا الأحزاب السياسية، كما أكد على عدم رغبته في التعامل مع حزب أمنو الذي سبق وأن قام بإسقاطه وإخراجه من الحكم بشق الأنفس، وأنه إن قبل دعم الحزب له، فإنه سيقبله من بعض الأفراد الذين لا تشوبهم تهم الفساد.

وفجأة سحب كل من حزبي أمنو وباس دعمهم لمهاتير، وهو ما جعله يظهر فاقداً للأغلبية في البرلمان، ووافق ذلك أن ظهر خلاف بين كل من مهاتير ومحي الدين، حيث ينقل البعض أن محي الدين كان من المؤيدين لعودة حزب أمنو للسلطة من جديد، وهو ما عارضه مهاتير بشدة، وأمام هذه الخلافات قام الملك بتكليف محي الدين بتشكيل الحكومة عندما شعر أنه يملك تأييد الأغلبية.

في السابع من الشهر الحالي، نشرت صحيفة ماليزيا كيني تقريراً نسبت فيه لمحمد حسن، أحد قادة حزب أمنو، والذي يرأس تحالف “الوفاق الوطني” (MN)، وهو التحالف الذي جمع حزب باس الإسلامي بحزب أمنو الذي حكم البلاد مدة ستة عقود؛ نسبت الصحيفة لحسن تصريحات مفادها أن تحالف الوفاق الوطني قام بدوره كمعارضة في حكومة مهاتير، وأن الدّعم الذي أظهره حزب باس لمهاتير محمد الشهر الماضي، وقبيل استقالته كان يهدف إلى زعزعة الوفاق بين كل من مهاتير وأنور إبراهيم، ويهدف إلى الحيلولة دون انتقال السلطة لأنور إبراهيم.

اللعبة لم تنته بعد

بغض النظر عن مدى مصداقية هذه التصريحات، فما يمكن قوله أن البساط قد سحب من تحت قدمي مهاتير محمد، وتم إيكال الأمر لمحي الدين؛ من قبل الملك الذي اجتمع ببقية السلاطين قبل إصداره هذا القرار، وهو ما قد فهمه البعض على أن الملك قد حصل على موافقة مجلس السلاطين حول هذه الخطوة.

ولكن من يطّلع على تاريخ الرجل السياسي يعلم أنه عنيد في معاركه السياسية، كما أن له تاريخ في مشاكسة ومواجهة السلاطين، أو بعضهم. لذلك من المستبعد أن يسلّم لهذا الأمر بسهولة.

والدليل على ذلك أنه أعاد تحالفه مع حزب أنور إبراهيم، وأعلن أنه يحظى بتأييد 114 برلمانياً، أي الأغلبية، وقام بنشر قائمةٍ بأسمائهم لإثبات ذلك، كما قام مؤيدوه بنشر فيديو يُظهر توقيع النائب رقم 114 عريضة تأييده لمهاتير، في حضوره وحضور مجموعة من أنصاره.

وكان من المفروض أن ينعقد البرلمان في التاسع من الشهر الحالي، وهو الموعد الذي ينتظره مهاتير لحجب الثقة عن حكومة محي الدين، لكن قرر الملك -مستخدماً صلاحياته الدستورية- تأجيل هذه الجلسة، وأصبح الموعد الجديد هو الثامن عشر من شهر مايو/أيار المقبل، أي بعد شهرين ونصف من الآن تقريباً، ويُفهم من هذه الخطوة رغبة الملك بتسليم منصب رئاسة الوزراء لمحي الدين عوضاً عن مهاتير محمد، ولعل الرّهان الأبرز الآن في استخدام هذه الفترة الزمنية لإقناع مؤيديه بالانتقال من معسكره إلى معسكر محي الدين.

نتيجة هذه المناورات السياسية الآن رهينة مقدرة رجل السياسة الماليزي الأسَنْ على الصمود في معركته الأخيرة، وعلى مدى مقدرته على الاحتفاظ بتأييد الأغلبية وإبقائهم في معسكره، وهو معروف بقدرته وخبرته في إيجاد لعبة السياسة هذه. فهل ينجح بذلك ويبدأ مشواره السياسي الأخير؟ أم أن هذا المشوار قد انتهى في اليوم الذي عقب ليلة الشيراتون؟ هذا ما ستجيبه الأيام القادمة.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه