حضرة صاحب العصمة!

كأنّ قبل 3 يوليو 2013، وهُو اليوم الأوّلُ للانقلاب العسكريّ في مصرَ، كان العدم. وكأنّ مصرَ دولةٌ في طور الإنشاء. وكأن ّالدّنيا لم تعرف الإعلام إلا بمَولِد المجلس الأعلى للإعلام!

كلّ الأمور تبدو اكتشافاً تعرّفت عليه البشريةُ بعدَ هذا اليوم، فالدّولةُ اختراعٌ، والجيشُ كذلك، وتمتدُّ النّظرة إلى عوالمَ أخرى، وكأنّنا في مرحلة «الطّفولة البشريّة» كما يُطلِق عليها أصحابُ نظريةِ التطوّر في علم الأجناس!

دراكولا

يتحدّث قائدُ الانقلاب العسكريّ عن الدّولة، وكأنّها اختراعٌ جرى اكتشافُه في التوِّ واللحظة، ولأنّها كذلك فإنّه يصوّرها على أنّها «دراكولا»، حيثُ لا تحيا إلّا على دماء النّاس، فالحفاظُ على الدّولة لا يكون إلّا بالتجويع وأنْ يتقبّل المِصريّون أوضاعهم المعيشيّة شديدة البؤْس بقَبولٍ حسنٍ، لإثبات حرصهم على بقاء الدّولة، الّتي تحوّلت من كِيانٍ يقوم على خدمة الشّعب صاحب السّيادة، إلى سيّد مُتسلّط على هذا الخادم البائس!

ويجري بعد هذا اختزالُ الدّولة في النّظام، لتصبح الدعوةُ إلى إسقاط النّظام البائس، هي دعوةً لإسقاط الدّولة، باعتبارها تعني النّظام، والّذي أصبح هُو شخصَ «الرّئيس المُلهم»، الّذي ظلّ يُرقّي نفسَه، من طبيب الفلاسفة وفيلسوف الأطبّاء ليكون نبيّاً من أولى العزم من الرُّسُل، فيستدعي الآية الكريمة: «ففهمناها سُليمان»، لإسقاطها على ذاته، فالله اختصّه بما لمْ يختصَّ به البشرَ، وأيضاً بما لم يختصَّ به سوى سيّدنا «سُليمان» عليه السّلام، وإنْ كان الأمرُ خاصّاً في مسألة واحدة، عندما اختلف «داود» و»سُليمان» وهما يحْكُمان في الحرث، فإن المُستدعي للآية الكريمة يُوحي بأنّ الأمرَ يتمّ في كلّ المسائل، لننتقل هنا من مجرّد وصف له بأنّه سيّدنا «موسى» بحسب أحد رجال الدّين، إلى أنْ يختصَّ هو نفسَه بذلك، وكان يكفي أن يكون في حكم «الخَضر»، الذي اختلفوا حول طبيعته، وهل هو واحدٌ من الصّالحين، أم نبيّ مُرسل، ما دام يشغله «العلمُ اللدُنّي»، لكنه نقل نفسَه إلى ما لا خلافَ حوله وهو سيّدنا «سُليمان» الّذي لم يختلفْ أحدٌ حول كونه نبيّاً من الأنبياء.

والانطلاق من العدم وصل إلى حدّ النّظر إلى الصّحافة في مصرَ على أنّها اختراعٌ أيضاً، فينطلق المجلسُ الأعلى للإعلام مُتحلِّلاً من كلّ التقاليد التي تحكُم أداء الكيانات التي تقوم على الإعلام، إلى حدّ أن يتطوّعَ فيُصدر قراراً مُلزماً للصّحافة والقنوات التلفزيونيّة، بألا تُذيعَ أو تَنشرَ اسمَ شيخِ الأزهر إلا مسبوقاً بلقب «فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الشّريف»، كما لا تُذيع أو تَنشر اسمَ البابا تواضروس، إلا مسبوقاً بوصف «قداسة بابا الإسكندريّة وبطريرك الكرازة المرقسيّة». فهل ينظر القومُ في المجلس الأعلى للإعلام على أنّ المَنصبَين: «شيخ الأزهر» و»البابا» اختراعٌ أيضاً، لم تعرفه البشريّة سوى الآن، بعد مرحلة العدم؟ فجاء القرار ليؤسس لقاعدة التعامل مع شاغلي المنصبين بهذا النحو؟

صغار الموظفين

لا أعرف المبرّر لهذا القرارِ المُدهش لغرابته، كما لا أعرف الدّوافع لإصداره؟ وهل كان هذا بعد اجتماعٍ للمجلس، قلّب فيه الأمرَ على كافّة الوجوه، ليصدر هذا القرارَ الملزمَ لوسائل الإعلام «العامّة» و»الخاصّة»، أم أن أحدَ أعضائه اختطف أوراقَه وختمه؟ وهل هو قرارُ المجلس أمْ أنّ المجلس مُسيّر لا مُخيّر، وهو الذي يسيطر عليه صغارُ الموظّفين السّابقين بمكاتب الوزراء، فلما صغُرتْ الدولة المصريّة على يد قائد الانقلاب صاروا هم اللائقين بها، لأنّ عسكر هذه الأيّام ليسوا كعسكر سالفِي العصر والأوان، فجمال عبد النّاصر كان قارئاً منذُ نعومة أظافره، وقد انتقل بين الأحزاب والتّنظيمات السياسيّة ومن الحزب الشيوعيّ «حدتو»، إلى جماعة الإخوان المُسلمين، ومن حزب مصرَ الفتاة ليؤسّس تنظيم الضبّاط الأحرار، ونحن في مرحلة مَن لا يقرأ ولا يكتُب، ولا يمكنه نطقُ جملةٍ واحدةٍ مستقيمةٍ يمكن الإمساكُ بها، وليست هواء يحلّق في طبقة ما فوق الغلاف الجويّ!

لم يدُسْ أحدٌ للبابا في وسائل الإعلام على طرَف، ولم يخاطبْه أحدٌ بشكل غير لائق، فلا يوجد من بين وسائل الإعلام من تناقش ولو القضايا التي تشغل المسيحيّين، وتدخل ضمن الحقوق اللصيقة بالإنسان، فلا أحدَ ينكر أن هناك أكثرَ من ثلاثمئة مسيحيّ جري حرمانهم كنسيّاً من حقّ الزواج لأنّهم لجأوا للطلاق القانونيّ، وهي قضيّة تفجّرت بعد الثّورة، وتظاهر هؤلاء ضدّ الكنيسة، ولم تناقش برامج «التوك شو» هذه القضايا، رغم كونها تحمل إثارة تجذب هذا النوعَ من البرامج. وقد سكت أصحابُ المظالم الآن لإحساسهم أنّ البابا جزءٌ من الانقلاب العسكريّ ولنْ تسمح سلطةُ العسكر لأحد بأنْ يتحدّى سلطانَه الدينيّ أو السّياسيّ، ولو على قاعدة: الحقّ في رفع المظالم لصاحب القرار؟

حماية من؟

فهل كان الدافعُ للتّعميم الّذي أصدره الأعلى للإعلام هو لحماية موقع شيخ الأزهر، وكان من الطبيعيّ أنْ تكون الحمايةُ لأصحاب أعلى منصبَين دينيَّين في مصرَ «البابا» و»الشيخ» وعلى قاعدة المراكز القانونيّة المُتماثلة؟!

نعلم، كما يعلم الجميع، أنّ شيخ الأزهر جرى استباحتُه من قِبل السّلطة الحاكمة، عندما كان المُراد حمله على الاستقالة، ولأنّه لم يوافق قائدَ الانقلاب العسكريّ على بعض شطحاته الدينيّة، عندما ظنّ أنّه أعلم أهل زمانه، وأنّه فَقِيه عصرِه وأوانه، وأراد أنْ يستصدر فتوى من الأزهر بأنّ الطلاق لا يقع إلا أمام «المأذون»، وقد جمع له «الشّيخ» هيئة كبار العلماء لتصدر فتوى تاريخيّة برفض هذه الخزعبلات، عندئذٍ تمّ تحريضُ الإعلام عليه لينال من مقامه الدينيّ ومن شخصه!

فقد تمّ هذا بتعليمات من «القصر الرئاسيّ»، والدليل على هذا أنّ الشيخَ وقد سحب أحد الصّحفيين إلى القضاء وصدر حُكمٌ واجبُ التنفيذ بسجنه، إلّا أنّ الحُكم لم ينفّذ، بل سافر في رحلة خارجيّة على طائرة قائد الانقلاب العسكريّ، والأصل أن يكون ممنوعاً من السفر لهذا الحُكم، ثمّ عاد في أمان ليقوم المجلس الأعلى للإعلام بالوساطة لدى شيخ الأزهر ليتنازل عن القضيّة، ودون الاعتذار المُناسب ممن أدانه القضاء.

صحافة السفرجية

وبعيداً عن هذا، فإنّ أحداً الآن لم يقترب من رحاب صاحبَي المقام الدينيّ الرفيع: الشيخ والبابا؟! ولا أعرف مبرراً لهذا الإصرار من قبل المجلس الأعلى للإعلام على الصّيغة المذكورة أعلاه

وماذا في صياغة أخرى من آثامٍ؟، كأن يُكتب أو يُذاع: «الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر» و»الأنبا تواضروس بابا الأقباط الأرثوذكس»، وغيرها من صياغات لا تخلّ بالمقام الرفيع، ولا تمثّل إهانة أو إدانة؟!

وهل هذا مُقدّمة لقرار جديد يصدر لإسباغ أوصاف التفخيم لعبد الفتاح السيسي، ويعلم رئيس المجلس الأعلى للإعلام، أنّ الإعلام المصريّ لم يكنْ يستخدم في التعامل مع كبار النّاس وصغارهم إلّا اللقب العلميّ فقط، وهو «الدكتور»، وربما الوحيد الذي كانت الصّحف الحكوميّة وحدها تسبق اسمه بلقب «السيّد» هو «صفوت الشّريف» ربّما بطلب خاصّ منه عندما كان وزيراً للإعلام، فحتّى مُبارك، فهو «الرّئيس مُبارك» وهو «مُبارك» وفقط، وعندما كتب أحد المُحرّرين الشبّان لقب «الأستاذ» أمام اسم أحد المسؤولين علّق رئيس تحريره الصحفيّ الكبير بأنّها «صحافة السفرجية»، والخدم في البيوت!

ومهما يكنْ، فهل أراد «الأعلى للإعلام» ولأسباب تخصّ بعضَ أعضائه، أنْ يفرض المُفردات الكنسيّة على الصّحافة والقنوات التلفزيونيّة عند مُخاطبة البابا؟، فوافق الجميع باعتباره رجل العسكر الوفي، و»من جاور السّعيد يَسْعَد»، فتمّ فرض قدسيّته على الجميع. وبلقب فيه خلاف حول مدلوله وهو وصف “قداسة”، وهو وإن كان في أحد تفسيراته لا مشكلة فيه، إلا أنه في تفسيرات أخرى قد يمثل تعارضاً مع عقيدة المسلم الذي لا قداسة لبشر في اعتقاده الديني، والعلمانية في أحد تفسيراتها جاءت لنزع “القداسة” عن العالم، وفي بعض التفسيرات المسيحية جاء أن في الإيمان المسيحي ربط “القداسة” بالله يقودنا إلى ربطها بمجد الله الخاص!

كنّا في حزب «الأحرار» نتبع اسم رئيس الحزب بلقب (بِيه) لكن أحدنا كان مصرّاً على أنّه «مصطفى باشا مراد»، ولما سُئِل في هذا قال لأنه عندما يكون هو «باشا» تصبح «بِكْ» من حظّنا نحن!

هل هي مُقدّمة لمرحلة «حضرة صاحب العصمة» عبد الفتاح السيسي؟!

  

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه