حديث صريح مع أقباط مصر

 (1)

كانت 2017 من أصعب السنوات في تاريخ العنف لسياسي الموجه ضد الأقباط في التاريخ المعاصر، ولعل حالة الطواريء التي تعيشها مصر منذ أبريل الماضي أوضح دليل على ذلك، فقد شهد العام الكثير من حوادث التفجير والاغتيال العشوائي الموجه للأقباط، من سيناء في الشمال الشرقي إلى الصعيد جنوبا، وحتى أقاصي الغرب، لو تذكرنا ما حدث في ليبيا قبل ذلك وما تلاه من حوادث أقل بشاعة، وإن كانت لا تقل في دلالتها وخطورة مقصدها، لذلك فإنني أعتبر مسلسل العنف ضد الأقباط في مصر من أخطر مظاهر 2017 في رأيي، ليس لسبب ديني يتعلق بالحديث المتواتر عن الفتنة الطائفية، ولكن لسبب أهم يتعلق بمخطط تفتيت مصر كلها، ونزوع صناعة الفوبيا كمدخل للتحكم في المجتمع وإضعاف قوته على المعارضة والتكتل ضد النظام الفاسد، وكنت قد كتبت أكثر من مرة في ضرورة المراجعات لكل التيارات السياسية والتكوينات المجتمعية، بهدف تطوير حالة مصر باتجاه “الدولة العصرية” والنجاة من “تقسيمة الألتراس” التي تسعى لوراثة التكوينات القبلية والعصبية ولكن بقشرة عصرية تخفي الجوهر القديم، ومن هنا يبدو أن مقالي عن الأقباط ليس مجرد رد فعل على انتهاء العام بحادث كنيسة حلوان، لكنه يرتبط بدوافع أعمق وأهداف أشمل تتعلق بضرورة المواجهات الحرة للخروج من طور “التجلطات الاجتماعية” إلى تجانس مفهوم الشعب والمواطنة في دولة دستورية، فالأقباط مكون أصيل من مكونات الأمة المصرية، ولست بصدد تعداد المواقف السالبة والموجبة في تاريخهم الاجتماعي والسياسي، لأنهم مثل بقية عناصر ومكونات الأمة، يصيبهم في فترات الهبوط ما يصيب الباقي من زيغ وانحراف عن الصواب، وفي فترات أخرى تبدو مآثرهم الوطنية والحضارية في قوة الانتماء والفداء والدفاع عن الوطن في كل مراحله التاريخية، لذلك ليست مصادفة أن خونة الوطن من خارج الأقباط أكبر بكثير من الخونة داخل الأقباط (إن وجدوا)، فالقبط بلا مزايدة هم الجبت هم «الأرض السمراء.. هم المصريون من قبل المسيحية ومن بعدها».

(2)

هذا هو المدخل الوطني والحضاري الذي أنظر به للقبطي باعتباره «مصريا» مثلي مثله، لا تفرق بيننا العقيدة، بل يجمعنا الوطن الواحد، وعبادة الله الواحد، وقد دفع الأقباط ثمنا فادحا لتمسكهم بمصر وطنا، فعانوا من التمييز والاضطهاد في كثير من العصور، حيث كانت تخصص لهم عمامات بلون خاص لتفرقتهم عن إخوانهم في الوطن، وكانوا الأقل استحقاقا في حقوق المواطنة، والأكثر دفعا للضرائب وتحملا للمظالم، لذلك لما جاء الفرنسيون لاحتلال مصر في نهاية القرن الـ18، ورفع نابليون شعار الصداقة للسلطان العثماني، متعللا بأنه ما جاء إلى مصر إلا لتخليصها من ظلم وبطش المماليك، وصدق قطاع من الأقباط مقولات نابليون، وانضموا إلى الفرنسيين فيما عرف بظاهرة «الجنرال يعقوب»، وهو من كبار القبط الذين بدأوا في تأسيس «جيش مصري» من الأقباط، لمقاومة المماليك برعاية جنرالات الحملة الفرنسية.

(3)

لست بصدد مناقشة تصرف «المعلم يعقوب» بأثر رجعي، لأن القضية معقدة جدا، وتتوزع بين طرفين نقيضين: أحدهما يراه خائناً تحالف مع جيش الاحتلال، والطرف الآخر يراه مؤسسا لفكرة «الوطنية المصرية» في مواجهة الولاية الدينية المتعصبة التابعة للباب العالي، وعلى مدى أكثر من قرنين ظلت هذه الإشكالية تراوح مكانها بلا محاولة للفهم وللاقتراب، فالعثمانلية والمتعلقين ببقايا ميراث السلطنة والخلافة، يعتبرون أن الولاء لإسطنبول هو ولاء للإسلام، حتى ولو على حساب الوطن، وجنود يعقوب يريدون القتال لتأسيس وطن يتسع لحياتهم دون تمييز وانتقاص من حقوقهم في المساواة مع بقية الأخوة في الوطن، وقد صدرت في هذه القضية عشرات الكتب التي تتبارى في تقديم وجهتي النظر، لكن المؤرخين الذين استراحوا لتوصيف حملة بونابرت بأنها كانت «نار ونور»، ظلوا على شقاقهم في توصيف حلم «الجنرال يعقوب»، فهو نار مرفوضة وخيانة صريحة عند فريق الرافضين، ونور بلا خطيئة عند فريق المؤيدين.

(4)

إذا كنت لن أناقش قضية «المعلم يعقوب»، فلماذا أطرحها اليوم؟

لأنني أريد أن أنبهكم إلى اننا ظللنا لأكثر من قرنين نختلف على قضية في تاريخنا، دون أن نتتهي إلى تقييمها بما يخدم مصلحة الوطن، وبما يساعدنا على الاستفادة من دروسها، لذلك فإن القضية تتواصل حتى اليوم بصور مختلفة، بعضها يتعلق بممارسات وأفكار بعض «أقباط المهجر»، وبعضها يتعلق بتصور الأقباط عن مرجعيتهم السياسية، وراعيهم الأكبر، فالانشقاق الديني البارز للكنيسة المصرية، والذي جعل كلمة «قبطي» تعني فقط المسيحي المصري وليس سواه، ذاب أمام عامل الاحتماء السياسي بالغرب كمرجعية سياسية، وهي ملاحظة تعبر عن يأس قطاع كبير من الأقباط في تجسيد حلم «الدولة الوطنية» التي يشعرون فيها بأنهم مواطنون لهم كل حقوق المواطنة بمساواة كاملة وبدون أي تمييز أو انتقاص، لهذا تشير الإحصائيات إلى ارتفاع معدلات الهجرة إلى الغرب بين الأقباط، وعلى ارتفاع معدلات تغيير الأسماء المسيحية الشرقية، إلى أسماء غربية صريحة، فتتناقص أسماء بطرس وجرجس وصموئيل ودميانة لتصبح بيتر وبيير وسام وديانا.

(5)

الاعتراف بأخطاء تاريخية في التعامل مع الأقباط كمواطنين كاملي الحقوق، لا يبرر أبداً انتقال مرجعيتهم النفسية من وطنهم إلى أي قِبلة سياسية أخرى، كما لا يبرر انتشار مصطلح «شعب الكنيسة»، الذي قد ينتهي باصطناع «جيتو مسيحي» كبير داخل مصر، لكن هذا الاعتراف يصلح كبداية لتصحيح هذه الأخطاء، وضمان عدم استمرارها، وهذا لن يتحقق إلا بتحقيق «حلم يعقوب» من غير أدواته المدانة، وارتباطاته بالمحتل، وهي تجربة تاريخية كان لها ظروفها، ونحن لا نعيد إنتاجها، لأن الظروف تغيرت كثيرا، وعلينا أن نتمسك بالحلم، ونتجنب أخطاء تنفيذه.

(6)

قد يؤدي تكثيف الصياغة في خطاب المراجعات إلى مشكلة في الشرح والفهم، لكنني أراهن على ثقافة القارئ، وعلى فتح باب الحوار لمناقشة القضايا بكل تفريعاتها، وهي قضايا مهمة ومتشابكة، ويصعب حسمها بضربة رأي واحدة، وأعتقد أن حلم «الدولة الوطنية العصرية» هو قلب هذه القضايا وجوهرها، وهذا يعني فك ارتباطات المواطن البطيء بالغرب في الخارج، وبالسلطة في الداخل، لأن الخارج سيظل يلعب لعبة نابليون، والداخل سيظل حريصا على استخدام ورقة الأقباط لمصلحة تدعيم نظام حكمه، فقد تحول «شعب الكنيسة» في نظر السلطة الحاكم إلى مجرد «كتلة انتخابية» يمكن عقد الصفقات معها، مقابل امتيازات يحددها رضا الحاكم، بينما منظومة القوانين والسلوكيات المتعارف عليها تواصل التعامل مع القبطي كمواطن منقوص المواطنة.

(7)

أرجو أن أكون قد أوضحت «نقطة البدء» التي يحتاج إليها الأقباط لمراجعة أنفسهم فيها، وهي إعادة النظر لأنفسهم كمصريين، لا كأقباط، مصريين أحرار بحقوق كاملة ومتساوية، وينظرون لمؤسساتهم (ومعظمها كذلك) كمؤسسات في خدمة المجتمع المصري كله، وليست مؤسسات ذات بعد طائفي تختص بأقلية، والحقيقة أن هذه النظرة موجودة في الواقع بدرجة مفرحة، فالمدارس القبطية، وكذلك المستشفيات (وحتى الكنائس) ملك لكل المصريين، وتقوم بدورها بلا طائفية ولا تمييز، لكنني أخشى أن إحساس القبطي بالمواطنة، لا يزال يحتاج من الجميع إلى نقلة في مفهوم الوطن، نتخلص فيها من ميراث «الباب العالي»، ومن رضا السلطان أو غضبه، ومن إدارة لعبة التحايل والتوازن مع السلطة الطاغية، التي تكرس الطائفية في التعليم والقوانين، وتكتفي بالوحدة الوطنية في صور المناسبات الدينية ونشرات الأخبار، فلن تصح المواطنة إلا في وطن صحيح، ولن يصح الوطن إلا بمواطن صحيح.

(8)

أخوتي الأقباط/

لا أنتم شعب السيسي ولا شعب الكنيسة، أنتم من شعب مصر.. فليكن عيد الميلاد المجيد بشارة ميلاد جديد للوطن الذي نبتغيه

كل عام والجميع بخير وسلام

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه