جرائم الشرف وسكاكين المطابخ

 

يعيش الرجل العربي في ظل أنظمة استبدادية لم تترك له ما يعتز به من شرف بين الناس إلا عفة النساء، فهذه الأنظمة تريق كرامته في كل مكان، في فروع المخابرات، وفي أقسام الشرطة، وعند التصفيق الإجباري احتفالا بإنجازات الزعيم، وعند الطوابير المزدحمة أمام الأفران، وفي مشافي الدولة، وفي امتحانات الوظائف الشفوية، وعلى مقاعد الدراسة. لم يتبق للرجل العربي شيء يثور لأجله إلا نساء بيته، فهن آخر ما تبقى من كرامته، ولذا فإنه يَقتلُ إذا مُست امرأة تخصه، يقتلها ويقتل من مسها، ثم يموت قهرا، لا دفاعا عن شرفه كما يقول، بل دفاعا عن الشيء الوحيد الذي أُعطي الحق ليدافع عنه، دفاعا عن البقعة الوحيدة الأخيرة التي لم يدُسها الاستبداد في كرامته، دفاعا عن آخر ما يدرأ عنه شعوره بالعار.

العرض بين اللغة والنظام السياسي:

يثير مصطلح الشرف أو العرض الجدل أكثر من أي مصطلح آخر متعلق بالمرأة، ومكمن إثارته للجدل أصلا هو تعلقه بالمرأة دون الرجل.

قال ابن الأثير: “العرض موضع المدح والذم من الإنسان”، وقال أبو العباس: “إذا ذكر عرض فلان فمعناه أموره التي يرتفع أو يسقط بذكرها من جهتها بحمد أو بذم”، وقد جاء في الحديث الشريف: ” لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وعُقُوبَتَهُ”، أي أن من يماطل في أداء الدين وهو له مستطيع، فيحل عرضه للمستدان منه، أي أن يذم عرضه ويصفه بسوء القضاء وينعته بالظلم.

فالعرض لغة وشرعا ليس مقتصرا على العفة الجنسية للمرء، ناهيك عن أن يكون مقتصرا على العفة الجنسية للنساء وحدهن، وأي ذكر لأمرئ بسوء هو استحلال لعرضه، سواء اتُّهم بالخيانة أو السرقة أو الرشوة أو الظلم أو الزنا، أو اتهم بذلك أحد أسلافه أو أهله لتلحقه النقيصة بعيبهم.

ولكن اختزال العرض بعفة النساء، وإن كان أمرا نتج بداية عن تغلغل المفاهيم القبلية إلى الإسلام، ولكنه ملائم الآن جدا لأنظمة الحكم في دول الاستبداد، فكم هو مثالي هذا الرجل الذي لا يتورع عن ممارسة الرشوة والأذى والظلم والقتل في سبيل رضا الحاكم، حتى لو وصم بهذه الصفات ليل نهار، وكم هو صالح هذا المواطن الذي يتحمل الإهانات في كل مكان على أرض الوطن دون أن يشعر بخدش في كرامته، بينما تثور ثائرة أحدهما لو مُست سمعة واحدة من نسائهما بسوء.

وهكذا ترسخ النظم الاستبدادية المنظومات الأخلاقية التي تلائمها، والتي يدفع ثمنها دوما أضعف أطراف المجتمع – النساء-، ليكن هن القطعة الأخيرة في دومينو الظلم الشامل.

من هو المجرم الحقيقي؟

وفي جرائم الشرف التي تمثل ذروة الخلل الأخلاقي، يصبح المشهد مضللا، ويصير التمييز بين المجرم والضحية أمرا عسيرا، فعلى مسرح الجريمة ثمة ضحيتان، أحدهما يستقبل الرصاصة في رأسه، والثاني يمسك المسدس في يده، بينما يكون المجرم الحقيقي هو المنظومة كلها، والتي نكون نحن جزءا فاعلا فيها.

المجرم الحقيقي هو الذي يثرثر في المقاهي عن فلانة وفلانة، والذي يقسم أنه رأي فلانة تركب السيارة مع فلان، وهي التي تخوض في أعراض الناس تلبية لشهوة الكلام، والتي تغتاب فلانا أنبتت له أخته أو ابنته “قروناً”، حتى إذا ما وقعت الجريمة لبس الجميع قناع الحمل الوديع، مع أن المقتولة ضحية ألسنتهم مثلما أن القاتل أيضا ضحيتها، فهو أمام خيارين أحلاهما مر، إما أن يقتل من قد تكون أقرب الناس إليه، أو أن يُقتل بنصل ذات الألسنة ليل نهار حتى نهاية حياته.

جرائم الشرف من تركة الاستعمار:

وأمام عظمة التشريع الإسلامي يظهر تهافت القوانين الوضعية، فالستر في القرآن مقدم على الحد تقديما كبيرا، وقد شدد القرآن العقوبة بحق قاذفي المحصنات تشديدا يكاد يكون معه اتهام أي امرأة أمرا مستحيل الحدوث، طالما أن التهمة مع اشتراط الشهود الأربعة تكاد تكون مستحيلة الإثبات، بينما نرى شتم النساء الآن من أسهل ما يجري على ألسنة الناس.

وقبل كل ذلك جاءت التوجيهات الإلهية بحرمة الغيبة وتتبع العورات والتجسس وإساءة الظن وشهادة الزور، الأمر الذي يقتلع هذه المشكلة الاجتماعية من جذورها. ولو طبقت الشريعة في مجتمعاتنا بالفعل لاهترأت ظهور نصف الرجال والنساء، من المتباكين الآن على ضحايا جرائم الشرف.

أما القوانين الوضعية فلم تكتف بأن تكون قاصرة عن حفظ حق المحصنات في أن تصان أعراضهن من خوض الخائضين، بل تهاونت في حقهن في الحياة أيضا، حين سنت في كتب قوانينها، ما يسمى “جرائم الشرف”، والتي تزهق فيها دوما أرواح نساء بريئات، سواء كن من مرتكبات خطيئة الزنا فعلا، أو ممن حامت حولهن شبهات كاذبة، فهن في الحالتين بريئات مما يستوجب إزهاق الروح.

وليست هذه المواد القانونية المخففة للعقوبة في حال “جرائم الشرف” إلا من نتائج ما أُطلق عليه “الغزو القانوني الغربي للبلاد الإسلامية”، حيث تضمن القانون الفرنسي حتى عام 1975 المادة 324 والتي تخفف الحكم على الزوج في حال وجد زوجته في وضع فاضح مع رجل آخر، فيما كان يسمى بالجريمة العاطفية Crime passionnel.

 وبعد إلغاء التشريع الإسلامي في الدول العربية عند انهيار الدولة العثمانية، تبنت معظم الدول العربية هذه التشريعات الظالمة، مستغنيةً عما أنزله الله تعالى من وجوب وجود أربعة شهود عدل يشهدون على الزنا الكامل بلا ريب، ومكتفيةً بمجرد الشبهة، ليستفيد القاتل من تخفيف الحكم.

النساء وسكاكين مطابخهن:

ومع كل جريمة شرف تظهر للعلن، ترى ردود فعل النساء يملؤها الغضب والسخط والثورة والاستنكار العظيم للواقعة، لكن كل هذه الانفعال لا تعدو كونه ستارا يحجب أكثر المشاعر عمقا وتأثيرا، ألا وهو الخوف الدفين الذي يعيش في قلب كل امرأة، فكل امرأة من بنات المجتمعات التي تتهاون مع قتل النساء تحت اسم الشرف، تشعر أنها مهددة بالقتل على نحو ما، بسبب خطيئة قد تزل قدم أي إنسان فيجترحها، أو ربما حتى بسبب مجرد شبهة.

من المرعب جدا أن تعيش المرأة في بيتها دون أن تشعر أنها هنا في هذا المكان محمية من كل شيء، من المرعب أن تكون سكينة مطبخها التي تقطع بها الطماطم هي السكينة التي قد تودي بحياتها، أن تكون غرفة نومها هي الغرفة التي قد تضرب فيها حتى الموت، أن يكون سريرها هو السرير الذي قد تنزف فيه آخر دمائها، أن يكون والدها الذي تقبل يده كل صباح، أو إخوتها الذين تتشارك معهم ذكريات الطفولة، هم قتلتها المحتملون!

كيف نريد أن نربي فتياتنا على الثقة والحب والاستقرار النفسي وهن يعلمن أنهن يعشن في بيوت قد يقتلن فيها، مع آباء وإخوة وأعمام قد يقبلونهن اليوم على الجبين، ويطعنونهن غدا في الصدر؟!

وكيف نريد أن نربي رجالا يموت إخوتهم تحت التعذيب في أقبية الظَّلَمة، وتسلب منهم كل حقوقهم كبشر، ثم لا تثور كرامتهم إلا على نساء مستضعفات؟

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه