جدلية السياسة والقانون في خطاب أردوغان

دعونا نتفق ابتداء أن تركيا حققت حتى الآن نصراً قانونيا وسياسياً بكشفها السريع لجريمة قتل وتقطيع جثة جمال خاشقجي بمقر القنصلية السعودية في إسطنبول يوم 2 أكتوبر الماضي، وبإجبارها -بشكل محترف- للنظام السعودي (المغرور والمتفخ والمتعالي) على الإعتراف المهين بجريمة القتل، مع طلب الرحمة، ومحاولة إبعاد التهمة عن ولي العهد محمد بن سلمان، ولا يهم أن يتحملها أو يتحمل نتائجها وتداعياتها بعد ذلك الشعب السعودي كله.

بالاسم والرسم

من المهم طبعا التوصل إلى المتهم الرئيسي في هذه الجريمة التي هزت ضمير العالم، وهو معروف بالاسم والرسم، وقد ألمح إليه الرئيس أردوغان في إشارات عديدة في خطاب الثلاثاء، لكن السياسة قد تقف في وجه القانون في هذه المسألة، وتدفع في اتجاه خيارات أخرى لتحقيق العدالة لخاشقجي، لا تقتصر بالضرورة على عزل ومحاكمة محمد بن سلمان (التي قد تحدث نتيجة ضغط أو تفاهم سياسي أيضا)، وإنما قد تقبل خيارات أخرى تحقق معظم وليس كل العدالة، كما يحدث عادة في المجالس العرفية لإنهاء بعض النزاعات المستعصية.

القانون يعرف طريقاً واحداً هو الوصول إلى المتهم الحقيقي، وتحديد الاتهامات الموجهة إليه، والعقوبات المستحقة عليه، لكن السياسة قد تحجب بعض الملفات أو الأدلة التي تقود إلى المتهم الرئيسي، مكتفية بمتهمين أقل درجة، في سبيل تحقيق مصالح سياسية أعلى للوطن والشعب حسب رؤية القيادة الحاكمة.

الصدمة التي شعر بها البعض من خطاب أردوغان سببها هو الاعتماد على الشق القانوني فقط الذي بدا قوياً، ممسكا بتلابيب النظام السعودي، الذي ضبط متلبسا بالجريمة، متجاهلين أن السياسة تستخدم القانون أحيانا كوسيلة لتحقيق مصالحها، وهذا من أبجديات حكم الدول، قديما وحديثا، وحين تكون السياسة عفية تمتلك أدوات القوة الأخرى فإنها تستطيع إنفاذ القانون إذا كان لمصلحتها، وتستطيع إيقافه إذا لم يكن كذلك، والأمثلة أمامنا أكثر من أن تحصى.

خطاب أردوغان

رغم الانتقادات الكثيرة لخطاب أردوغان الذي بدا متساهلا على غير ما كان متوقعا بأنه سيكون خطاب الحقيقة الكاملة، فإنه نقل الأزمة من الإطار القانوني إلى الإطار السياسي، أو أضافه إليه، فالحديث لم يكن من المدعي العام التركي بل من رئيس الدولة، الذي هو في الوقت نفسه رئيس الحزب الحاكم، والمناسبة كانت اجتماعا للكتلة البرلمانية لهذا الحزب ، والرسائل في الخطاب كانت سياسية بامتياز سواء في نسف الرواية السعودية وتأكيد الرواية التركية، أو في التأكيد بأن تركيا لن تقبل بمساءلة موظفين صغاراً مع ترك المتهمين الحقيقيين، أو كما عبر أردوغان أن المساءلة يجب أن تتسع لتبدأ من أسفل السلم حتى أعلاه، وفي ذلك إشارة واضحة إلى جانب إشارات أخرى عن محمد بن سلمان الذي تجاهل ذكره مباشرة مفضلا توجيه الحديث لوالده الملك سلمان، وهي رسالة سياسية قرأتها “نيويورك تايمز” بأنها تستهدف فصل الابن عن أبيه في هذه القضية، كما أن أردوغان رفض أن تظل القضية مقصورة على متهمين سعوديين بل تحدث عن أطراف أخرى إقليمية كان لها دور في الجريمة في إشارة إلى النظامين المصري والإماراتي تحديدا، وفتح المجال أيضا لإمكانية نقل القضية إلى تحقيق دولي، وهو ما فتح شهية الأمم المتحدة سريعا حيث خرج متحدثها فرحان حق معلنا جاهزيتها للتعامل مع القضية إذا طلبت تركيا ذلك رسميا..

حتى نقترب من فهم أفضل لخطاب ترمب علينا أن لا نفصله عن محيطه السياسي، والاتصالات السياسية العالية التي سبقته وأهمها اتصالات الرئيس الأمريكي ترمب الذي وصف خطاب أردوغان بالقاسي بحق السعودية، التي وصف تسترها أيضا على جريمة خاشقجي بأنه أسوأ تستر في التاريخ، والذي أوفد مديرة مخابراته إلى تركيا، فيما أرسل وزير الخزانة إلى الرياض، وكان من الواضح أنه جرى الاتفاق مع أردوغان على  منح فرصة جديدة للنظام السعودي لمعالجة جريمته، وضمن هذه الفرصة أن لا يذكر أردوغان كل ما سبق أن وعد به منذ الأحد الماضي في هذه القضية.

ليس رضوخاً

لا يعني ذلك رضوخا تركيا لتوجيهات أو مطالب ترمب، ولكنه يعكس حرصا على إيجاد حل عادل للأزمة يقنع الرأي العام الدولي المكلوم، ومن الواضح أن اتصالات اللحظات الأخيرة قبل الخطاب اقتضت أيضا أن تعقد الحكومة السعودية اجتماعا طارئا برئاسة الملك سلمان يصدر عنه تعهد بمحاسبة المتورطين، وقد خرج البيان بالفعل عقب الاجتماع وإن بلغة ركيكة تتحدث عن مساءلة من وصفتهم بـ”المقصرين”، وليس المتورطين أو المتهمين.

البقرة الحلوب

ترمب الذي أبدى اهتماما كبيرا بهذه القضية بهدف “حلب” المزيد من الضرع السعودي، والذي يبدو أنه لا يستطيع الصمود كثيرا في مواجهة الضغوط الإعلامية والبرلمانية (الكونغرس) أعلن في أحدث تصريحاته -التي تتغير بين ساعة وأخرى- أنه سيترك الموضوع للكونغرس ليقرر في الأمر، ومعروف أن الكونغرس بغرفتيه يزخر بالنواب المتشددين ضد السعودية حاليا، وعلى الأرجح فإن ترمب يستغل الكونغرس لممارسة مزيد من الضغط على السعودية، وقد يتدخل في النهاية مستخدما حقه الدستوري في وقف بعض القرارات لدواعي المصلحة الوطنية، لكن القوة الكبرى حتى الآن التي لا تزال خارج السيطرة هي قوة الرأي العام الدولي الذي تقوده وسائل الإعلام، وهو ما يظل أكبر سند لتحقيق العدالة لجمال خاشقجي.

تدرك تركيا أن مواقف الحكومات الكبرى وعلى رأسها الإدارة الأمريكية ليس لوجه الله، ولا لتحقيق العدالة لخاشقجي، لكنها لابتزاز المملكة (البقرة الحلوب)، ولذلك فإن أردوغان أراد فتح نافذة جديدة للنظام السعودي لإنقاذ نفسه، وإنقاذ مملكته من الشرور والمؤامرات التي يجأر بالشكوى منها، ويجند لمواجهتها دعاته وأبواقه الإعلامية، وملياراته النقدية، ورغم أن الرئيس التركي فتح الباب أمام فكرة التحقيق الأممي، لكنه لايريد للقضية أن تصل إلى تلك النقطة التي ستضر حتما بالمملكة بينما قد لا تفيد تركيا في شيء، وقد لا تفيد قضية جمال خاشقجي، والكرة الآن في ملعب النظام السعودي لمساعدة نفسه حتى يستطيع الأخرون مساعدته.

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه