جحيم على الأرض

لماذا صوت أبو الغيط غير مسموع في مأساة الغوطة، وصوته غائب بشأن مئات ألوف القتلى من الشعب السوري، وإزاء التدخل العسكري من روسيا وإيران وأمريكا.

ما قاله أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة من أن القصف العنيف للغوطة الشرقية حولها إلى “جحيم على الأرض”، ربما يكون أقل من الواقع الكارثي في المنطقة المنكوبة منذ بدأت موجة القصف، والتدمير الوحشي، والقتل العشوائي المجنون للسكان في 18 فبراير/شباط الماضي، ولا تزال جريمة الإبادة مستمرة حتى اليوم، رغم قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار لأهداف إنسانية.

 القرار لم يحترمه نظام الأسد، ولا روسيا، التي مررته بعد أن تدخلت في كل كلمة فيه حتى جاء وفق رغبتها هي، لا وفق الرغبة الجماعية لأعضاء المجلس، ولا وفق متطلبات العدالة والحقوق، بل إن هدنة الساعات الخمس التي قررها الرئيس الروسي بوتين -وبها يُلغي مفاعيل قرار مجلس الأمن- انتهكها الأسد-بوتين واستمرت الجريمة التي تفوق بشاعتها كل تصور، فلم تدخل قوافل الإغاثة للمحاصرين الجائعين منذ خمس سنوات، ولم يتم تمكين المدنيين الراغبين في المغادرة من الممر الآمن لأن طائر الموت يظلل كل سماء وأرض الغوطة.    

سوريا كلها جحيم على الأرض، ما فوق الجحيم، ذئاب مُجرمة شرهة للدماء والافتراس، بعد أيام تبدأ السنة الثامنة على أكبر وأبشع مجزرة في تاريخ هذا البلد، وتاريخ العرب، الدم العربيّ بلا ثمن في مزادات أنظمة الطغيان الفاشي، دم أرخص من الماء، يسيل أنهاراً، بينما تجف أنهار أخرى من مياهها.

بين غوتيرش .. وأبو الغيط

قال الموظف البرتغالي الرفيع دولياً كلمة حقّ غاضبة لعلّه يستفزّ الضّمير الإنسانيّ الذي شبع موتاً في سوريا، ولم يقل مثله، أو أقلّ منه كثيراً أيُّ مسؤول عربيّ، أو متحدث نخبويّ من مُحترفي التنظير العقيم، أحمد أبو الغيط الأمين العام للجامعة العربية لم يكن بمُستوى ضمير غوتيريش رغم أن الدم الذي يجري في عروقه عربيّ، صمت عن الغوطة، وأخواتها ممن واجهن نفس المصير، وانتفخت أوداجه في مؤتمر ميونيخ للأمن مطالباً تركيا بوقف عمليتها العسكرية في “عفرين”، والانسحاب منها.

لماذا صوت أبو الغيط غير مسموع  في مأساة الغوطة، وصوته غائب بشأن مئات ألوف القتلى من الشعب السوري، وإزاء التدخل العسكري من روسيا وإيران وأمريكا، وكل من يريد تدريب قواته، أو تجريب أسلحته الجديدة مجاناً في سوريا؟، لماذا لا يطالب بإيقاف جريمة الغوطة أولاً ؟، كان هو الأحق أن يقول ما قاله البرتغالي، وأن تكون انتفاضته مجالها أطفال ونساء وعجائز الغوطة، وكل سكانها، وهم ضحايا تحالف مجرمي العصر، شلالات الدماء لا تراها عين الجامعة، ولا عين أمينها العام، ولا عين الدول الأعضاء، في عيونهم جميعاً رمد، لا يرون غير “عفرين”، ورغم أنه تدخل في بلد عربي صار مستباحاً بسبب الأسد الذي جلب الاحتلال والوصاية الأجنبية على بلاده لحمايته الثاني إلا أنه لا يتم قصف المدنيين بالطائرات في “عفرين”، ولم ينهدم بيت على جسد طفل غضّ فيختلط بالأنقاض، قُتل مدنيون لكن دون تعمد، الطائرات والمدافع والدبابات تبحث عن المسلحين المستهدفين، وتتجنب السكان الذين تستضيف تركيا منهم نحو 350 ألفاً، وقد دخلت المساعدات لمن هم باقون فيها، أما الوضع في الغوطة – وفي كل ما سبقها في المجازر الممتدة باتساع مساحة سوريا – أن طائرات الأسد والروس لا تتوقف عن إلقاء القنابل والصواريخ والبراميل المتفجرة بعشوائية، والدبابات تتحرك في كل اتجاه تقصف كأنّها عمياء، وكذلك تفعل فوهات المدافع، ليس الأمر تعقب إرهابيين، ولا حتّى مسلحين من المعارضة، إنما القصف على العموم والمشاع، سحق شامل، لا فرق بين مدني ومسلح، المسلح قد ينجح في التخفي والكمون والتحرك خلسة والنجاة قدر المستطاع، أما المدني فهو محاصر، لا يملك غير انتظار حمم الموت لتصيبه في الوقت المعلوم، ميتة مأساوية، حتى في الموت لا راحة للسوريين فيه، ليس موتاً رحيماً، والمستشفيات لم تعد آمنة للجرحى والمرضى وطواقمها، هناك استهداف ممنهج لها، إخراجها من الخدمة هدف عاجل لطائرات الموت، هي أولوية في بنك أهداف هولاكو العصر، ومعها المخابز، ومحطات المياه، والصرف، وسيارات الإسعاف، وأصحاب الخوذ البيضاء، وكل مرافق الخدمات حتى لا يجد الناس ثقباً ينفذون منه للحياة، فلا يكون أمامهم غير الموت جوعاً أو قصفاً، هكذا تعيش الغوطة، وهكذا عاشت كل المناطق التي استُهدفت سابقاً، تم تجريفها وإزالة كافة أشكال الحياة فيها، حصار الغوطة المميت قائم منذ عام  2013، والحملة الحالية العنيفة عليها هدفها إخضاعها وإعلان الانتصار والمتاجرة به ولو كان ثمنه ألوف الأبرياء وإزالة مدن وقرى المنطقة من الوجود. منطق القوة الهمجية، لا منطق السلام والحياة.

كلام جيد لا ينقذ الأرواح

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يقول إنه “بذريعة مكافحة الإرهابيين الجهاديين، فإن النظام مع بعض حلفائه قرر أن يهاجم سكاناً مدنيين، وربما بعضاً من معارضيه”، هذا وغيره من تصريحات قادة الغرب المتعاطفين مع نكبة السكان تبدو جيدة وإنسانية، على الأقل لا يقول مسؤول عربي مثلها، لكن التصريحات التي يطلقها ماكرون والقادة في العالم الديمقراطي طوال سبع سنوات لم تُوقف القتل، ولم تُنقذ روحاً واحدة، ولم تُحَاسب القتلة على جريمتهم، وبنظرة واحدة على المشاهد الحية التي تختلسها كاميرات الفضائيات للدمار في الغوطة نجد أن وضع برلين في الحرب العالمية الثانية ربما كان أفضل رغم عنف قصف قوات الحلفاء، ونظرة أخرى على أوضاع أكثر من 400 ألف من سكّان الغوطة نجد أن حصار القوات الألمانية لمدينة لينيغراد كان أقصر زمناً، وربما لم يكن بهذه القسوة، وإذا كان ما نستشهد به من قصف وحصار جرى في حرب عالمية بين دول كبرى، لكن في المجزرة السورية فإن الذي يقصف ويحاصر هو نظام يحارب شعبه، ويستعين على قتله بدول كبرى وميليشيات ومرتزقة!، وفي ظل ما يجري فإن الحل السياسي المنصف للدماء يزداد تعقيداً، ولا أمل في تحققه قريباً.

عار تاريخي للعالم

ليس هناك عار سيأنف التاريخ من تسجيله في صفحاته من ذلك العار الذي يجلل نظام الأسد وحلفائه، والعار سيلاحق الأمم المتحدة، وخاصة مجلس الأمن، وما يُسمى المجتمع الدولي، والقوى الكبرى، وعواصم العالم الديمقراطي، ومعهم العرب، فكل هؤلاء شركاء في الجريمة البربرية ضد الشعب السوري سواء بالصمت أو التخاذل أو الفشل في التحرك لمنع المجازر التي تُرتكب بحق هذا الشعب، مجلس الأمن صار رهناً بالفيتو الروسي الذي أسقط كل القرارات رغم بنودها التوافقية التي لم تكن ستفعل الكثير غير إيصال المساعدات الإنسانية، كل القرارات كانت خارج الفصل السابع؛ أي لا تشرّع استخدام القوة ضد من يخرقها.

أمريكا شريكة في المجازر

وجريمة أمريكا في المجازر لا تقل عن روسيا، فهي شريكة وضالعة فيها، وكذباً تدعي أنها من أصدقاء الشعب المظلوم، لكنها لا تفعل شيئاً، ولا تضغط بكل نفوذها سياسياً لإيقاف الحرب وردع الروس وهي قادرة على فعل ذلك، ولو زمجرت لارتعد كل هؤلاء الذين يستبيحون سوريا بلداً وشعباً، هل في موقفها هذا مصلحة إسرائيلية؟، غالباً هذا هو السبب في ترك الحرب تستفحل والدمار الشامل يكون من نصيب بلد عربي مجاور لإسرائيل.

وقد سقطت مرّة أخرى في سوريا كل شعارات الغرب بشأن حقوق الإنسان، والحريات، والديمقراطية، والكرامة الإنسانية، والحقّ في الحياة، ومواجهة الظلم، والعدالة، واحترام القانون والمواثيق الدولية، هذه القيم هي لفائدة شعوب الغرب حصراً، أما الشعوب الأخرى، ونحن منهم، فهذه الشعارات بضاعة فاسدة، وتزييف ونفاق رخيص، وعلى الأقل لم يعترف الروس ولا الإيرانيون أصدقاء الأسد بأنهم ديمقراطيون ومدافعون عن الحرية، هم يقرون بأنهم مستبدون، ولذلك يحافظون على حليف من طينتهم. وداعاً للإنسانية في جحيم سوريا.

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه