ثورة يناير: التاريخ لا يكرر نفسه

        

من المعروف أن التاريخ لا يتكرر بالطريقة نفسها، في الأحداث الكبيرة، باستثناء مثير للدهشة والتفكير والبحث، أنه يتكرر مع جماعة الإخوان، وبالطريقة ذاتها، فما حدث معهم في نكبة عام 1954، حصل في نكبة 2013، مع اختلاف الأسباب والظروف والخلفيات، لكن النتيجة واحدة، وهى اعتقالات ومحاكمات وسجون وإعدامات وشيطنة مجتمعية، وتحميلهم المشاكل والأزمات، وتحويلهم إلى فزاعة لإسكات الأصوات المعارضة، ومصادرة فكرة الديمقراطية والدولة المدنية.

[كتبت مقالاً في بداية 2012، واستبعدت فيه أن يمارس التاريخ لعبته المحببة مع الإخوان، لكن التقدير كان متفائلاً أكثر من اللازم].

لا تتعلم هذه الجماعة درس النكبة، منذ المرحلة الملكية (1948)، وفي الجمهورية خلال فترات رئاساتها المختلفة، وخاصة نكبتي عصر عبدالناصر(1954، 1965)، ثم يتكرر ذلك معهم وبشكل أشد في (2013) رغم أنهم وصلوا للرئاسة، قمة السلطة، وأمسكت أيديهم بالحكم.

الدولة العميقة ليست مبرراً

وضمن النقد الذاتي يجب على الإخوان ألا يواصلوا التحجج بأن الدولة العميقة كانت تحاربهم، ولم تمكنهم من إدارة شؤون الدولة، وإذا كان هذا صحيحاً جزئياً، فهو لا يُبرئهم، لأن أية حكومة مُنتخبة لا بد أن تُواجه بمعارضة، وكلما قويت شوكة المعارضة يُفترض أن تزداد يقظة الحكومة، ويتضاعف أداؤها، ولدينا نموذجان بارزان حالياً للتدليل على ما نقول هما: حكومة أردوغان، والمعارضة في تركيا. وإدارة ترمب الجمهورية، والحزب الديمقراطي المعارض.

 ومن كان يظن أن نظام مبارك بخلفيته العسكرية – وهو امتداد لنظام قديم وعميق يغرس أقدامه وأصابعه في مفاصل الدولة منذ 1952- سيسلم بسهولة ويتخلى عما يعتبره حقاً أصيلاً مكتسباً له فإنه كان واهماً وضعيفاً في حسابات السياسة والاستراتيجية، وتقديرات المواقف، وفهم حركة التاريخ.

فرصة المرة الواحدة

يناير كانت فرصة لمرة واحدة، وقد ضاعت بأسرع ما يمكن، وقدوم يناير جديد لا يتم هكذا ببساطة سواء بولادة طبيعية، أو بحقن مجهري، بمجرد أن يوجه الدعوة لها المقاول محمد علي، أو الإخوان، أوالقنوات الخارجية، أو أصوات فردية من هنا وهناك.

[ العشرات أو المئات الذين خرجوا في أماكن متفرقة يوم 20 من سبتمبر/أيلول الماضي كانوا في بروفة خاطفة، ومن الخطأ الاطمئنان لها والبناء عليها، والأوضاع على الأرض محفوفة بالمخاطر، وهناك جموع ترفض استعادة يناير ويونيو أيضاً، ونحن في طور حقبة حكم تأخذ هي الأخرى دورتها].   

يناير حصلت مرة واحدة، وليس بالضرورة أن تحدث مرة ثانية وبالكيفية ذاتها، مفاجأة اشتعال الثورة في 2011، لم تعد مفاجأة بعدها، وخاصة منذ 2014 حيث أول ذكرى لها بعد خروج الإخوان من الحكم وانطلاق أول دعوة منهم لتكرارها، وهذا التفكير الضيق مستمر من جانبهم حتى 2020، وسلطة الحكم الحالية استوعبت الدرس، لأنها جاءت من قلب مطبخ إدارة الدولة خلال يناير وما بعدها، وكل الخيوط كانت في يديها، ولهذا تفعل كل ما هو ممكن حتى  لا يُطْل التاريخ برأسه من نافذة أحداث الـ 18 يوماً في أمد قريب.

هل للثورات كتالوج؟

الثورة ليس لها (كتالوج) كما يقول البعض، وليست خطة مرسومة بالقلم والمسطرة ليتم سحبها من الدرج لتنفيذها على الأرض في يوم الذكرى السنوية، العمل الثوري قد يتسم بالعفوية أساساً، وقد يتطلب الأمر وجود الخططية، من يفكرون ويخططون ويحددون الأهداف ويصكون الشعارات ويعبئون الأجواء لا يصلحون وحدهم للقيام بها، سيتم التهامهم فوراً ومجاناً لأنهم أقلية الأقلية، هم طليعة فقط، وهم بحاجة لحماية شعبية وحوائط صد من فئات مختلفة تمثل هرمية المجتمع من أعلاه حتى أسفله لتحقيق القبول العام لحراكهم.

لم يكن في عقلية أحد من النخبة والمجتمع أن تندلع انتفاضة في تونس تتحول إلى ثورة شعبية تطيح بديكتاتور مثل (بن علي) هناك من ينتحرون من دون أن ينتبه إليهم أحد باستثناء عوائلهم، لكن انتحار بوعزيزي تم اعتباره شرارة ثورة الياسمين، وما تلاها من ثورات في موجة الربيع الأولى. لماذا بوعزيزي من دون سابقيه، هكذا الأحداث الكبرى تقع من دون خطط جاهزة مسبقاً، ولا أسباب مفهومة غالباً، إنها عفوية التغييرات الشعبية المفصلية.

هناك رواية تقول إن الذهاب إلى سجن الباستيل مثلاً واقتحامه وهدم حصونه باعتباره رمز نجاح الثورة الفرنسية (1789) جاء بكلمة عفوية من إمرأة كانت تجلس وسط الغاضبين في مقهى باريسي وهم لا يدرون ماذا يفعلون للتعبير عن غضبهم على الملك لويس السادس عشر. فقالت إلى الباستيل. مجرد كلمة نطقت بها. فقالوا وراءها، إلى الباستيل. وعندما وصلوا للسجن كانوا ألوفاً مؤلفة. ومن المدهش أن الباستيل، رمز القمع الملكي، لم يكن فيه سوى عدد قليل جداً من المساجين.

25 من يناير لم يبدأ كثورة

في مصر من ذهبوا لميدان التحرير يوم 25 من يناير من الشباب لم يكن في ذهنهم ثورة تطيح بمستبد عجوز مثل مبارك، كانت أقصى أمانيهم توجيه رسالة غضب ضد وزير الداخلية حبيب العادلي، وإقالته كانت ستعتبر ترضية كبيرة لهم ولغيرهم وإنقاذاً لمبارك، لكن عفوية الحراك البازغ، ونمط الحكم الفردي غير المؤسسي في اتخاذ القرار، كما في تونس، وبعدها اليمن وليبيا وسوريا، ساهما في صنع الحشود ضد مبارك، وفي الدعوات المتصاعدة لتبلغ السقف برحيل النظام، وكما حصل هذا في تونس ومصر، فإنه تكرر في اليمن وليبيا، والسقوط كان مآل الأسد في سوريا لولا مسارعة إيران وروسيا لإنقاذه وخذلان القوى الغربية لدعاة الديمقراطية فكان التهامهم من النظام وحلفائه، وكان التشويه مصيرهم من التنظيمات الإرهابية المُخّلقة في أجهزة استخبارية وأمنية إقليمية وعالمية.[ مازلت أستبعد فكرة المؤامرة الخارجية في الربيع العربي].

دعك من مقتل الشاب خالد سعيد، ودعك من البرلمان الموازي، ومن مقولة مبارك “خليهم يتسلوا”، ودعك من الاحتجاجات الفئوية والاجتماعية في السنوات الخمس الأخيرة في عهد مبارك، وكذلك الحركات التي تشكلت ضد التوريث، والمناهضة لبقائه في الحكم أكثر من ثلاثين عاماً، هذه كلها عوامل مساعدة مهمة لما تحقق في يناير 2011، لكنها ليست العامل الأساسي للثورة.

سيف الوقت

الثورة لم تكن تتسع وتكتمل إذا كان مبارك اتخذ قراراً ما بشأن وزير داخليته، أو أصدر قرارات جريئة ليلة 28 من يناير، حيث كان الأمر سينتهي بانتصارات لا تُنتزع بسهولة من رئيس عنيد اعتاد اتخاذ قرارات عكسية لما ترغبه الإرادة الشعبية، لكن حكم الفرد يقود دوماً نفسه وبلده إلى التهلكة.

 هكذا كان مبارك وزملاؤه في موجة الربيع الأولى، وهكذا حكام الجزائر والسودان في موجة الربيع الثانية 2019، وامتداد هذه الموجة في العراق ولبنان، وهكذا كل كوارث البلدان العربية منذ استقلالها بسبب العقلية التسلطية في إدارة شؤون الحكم. ولا يجب تجاهل دور الجيوش في حالات التغيير كلها في موجتي الربيع العربي.

مشكلة الدعوة للحراك

مشكلة الدعوة لنسخة مكررة من الثورة، أنها صادرة من تيار رئيسي معروف، وحوله أفراد من تيارات تختلف معه فكرياً، لكنها تتفق معه في وجهة نظر تتعلق بطبيعة التغيير في 2013، والمسار السياسي الذي أعقب هذا الحدث الكبير وعطل تقريباً الديمقراطية الناشئة كجوهر، وليس آليات وأشكال.

هذا التيار الرئيسي كان في السلطة وطُرد منها، ولم يستطع المحافظة عليها، ولم يقم بالتغيير الجذري الذي يحافظ على يناير ويحقق أهدافها، ومزق العلاقة مع التيارات الشريكة له في التحرير، وهو موضوع من سلطة الحكم الحالية وأنصارها، ومن حلفائها إقليمياً ودولياً في أصعب خانة، وهذا لا يُمّكنه من الفعل والعمل على الأرض، كما لا يجعله جديراً بالقبول العام مجتمعياً ونخبوياً، ولن يكون مقبولاً كقاطرة تغيير مهما كانت طبيعة الحكم المطلق.

المجهول والسلامة

ما يقرب من سبع سنوات من ممارسات سلطوية، تقابلها ممارسات عشوائية من أطياف معارضة خارجية وداخلية، وقبلها سنوات من الفوضى الثورية، والحكم الإخواني الساذج، علاوة على آلة إعلامية تقصف بعنف فكرة التغيير، وتُخّون الاحتجاج باعتبار ذلك دعوة للدمار، هذا وغيره يجعل شرائح كبيرة لا يُستهان بها من الناس ترضى بواقعها، ولو كان صعباً، إيثاراً للسلامة، وعدم المجازفة، والسقوط فيما تتصوره مجهولاً.

الثورة كفكرة في مأزق، وقوى الحريات والديمقراطية بلا مصداقية، والطيف النخبوي في أشد حالاته سوءاً وفقداناً للثقة اليوم، والناس في صراع محموم لتحصيل لقمة العيش.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه