ثورة جيش محمد علي

 

عندما قال لي محدثي، أين المعارضة المنظمة من استغلال ما جاء في فيديوهات “محمد علي”، قلت له إن الثورة القادمة سيقوم بها “جيش محمد علي”، فلا تذهب نفسك حسرات، لأنك لن تسمع من في القبور!

ليس أهل الحكم فقط من أفزعتهم ظاهرة محمد علي، فالواقع أن المعارضة أيضاً في حالة ارتباك، فبينما توطن نفسها على عملية استسلام طويلة، لحامل البندقية، والمدافع عن سلطانه بالدبابة، والذي استباح الجميع حفاظاً عل كرسيه، إذ يخرج من جدران الصمت، شاب من الناس وإليهم، وإذا به يكشف ويفضح، وإذا بالشعب حياً يؤوب معه، وإذ به يصبح بين غمضة عين وانتباهتها، أشهر من نار على علم، وإذ بالحكم العسكري وكأنه عهن منفوش، وقد خفت موازينه، وفُضح على رؤوس الأشهاد، على نحو زلزل أركانه، وإذا بالمعارضين يتحولون إلى مجرد مشاهدين لهذه الظاهرة، يسألون متى البث التالي؟!

الزلزال الثاني:

ولعل من المهم القول، إن هذا هو الزلزال الثاني لحكم عبد الفتاح السيسي، الذي كشفه على حقيقته، وكشفه للناس، وتمثل الزلزال الأول في تفريطه في التراب الوطني، وتنازله عن جزيرتي تيران وصنافير، وكان المصريون قبل هذا يرون أن قيمة العسكري المصري يستمدها من احساسه العظيم بقيمة الارض، فإذا بمن يحمل أعلى رتبة عسكرية فاقد لهذا الاحساس، ولأن السيسي يريد أن يأخذ الجيش معه رهينة في طريق التفريط، ليربطه به، فقد قال على الهواء مباشرة أنه سأل الجيش، والمخابرات، إن كانت جزيرتي تيران وصنافير مصريتان؟ فجاء الرد أن الخرائط التي في حوزتهم تؤكد سعوديتها، ولم يبدد ما كان يريده، سوى الإعلان من قبل المعارضة بأن الخرائط التي حصلوا عليها لتدعم موقفهم أمام القضاء، ليحكم بمصريتها، حصلوا عليها من أجهزة سيادية، فيصبح المفرط هنا هو السيسي وحده!

وهناك تغير في السلوك المصري من السيسي قبل وبعد التفريط في تيران وصنافير، فالسيسي قبل ليس كالسيسي بعد التنازل عن التراب الوطني، والمعارضة التي كانت تعلن أنه شيء يُسد به ثغرة مخافة من عودة حكم الإخوان، خرجت عليه، وسقطت هيبته لدى رجل الشارع العادي.

ليكون الزلزال الثاني، منذ انقلاب العسكر في يوليو 2013، هو في هذه الفيديوهات التي بثها المقاول والفنان “محمد علي”، فأنهت  ما تبقى من هذه الهيبة، فلم يعد هو كما وصف نفسه من قبل “بالشريف أوي إن شاء الله”، وكشف الفتى حقيقته للناس، من حيث كون بداياته البائسة والفقيرة، حيث عشر سنوات قضاها ليس في ثلاجته سوى الماء، أنتجت حالة من فقر النفس، حيث وجدت في السلطة المبرر لتعويض ما فاتها، كما أنها أسقطت مشروعه القائم على ادعاء الفقر، ودعوة المصريين لتقبل الجوع، وتقديم مصر باعتبارها “الدولة المعيلة”، التي يرهق اقتصادها وجود من هم يتسمون بالسمنة، وهو ما يعني أنهم عبء على الاقتصاد المصري، لشراهتهم للطعام!

لقد قام مشروع السيسي على أن “العين بصيرة واليد قصيرة”، وأنه ورث بلداً فقيراً، وأنه يتحمل مع المصريين شظف العيش، فهو يشاركهم في هذا، وإن كان قد طالبهم بـ “الفكه” ودعاهم للتبرع لمصر ولو بـ “جنيه”، فإنه معهم على “الحلوة والمرة”، لدرجة أن يعلن ذات مرة استعداده لبيع نفسه، من أجل الناس، لو كان هذا سيحل مشكلة الفقر في مصر، ولو كان هو كسلعة قابلة للبيع، أو تجد من يشتريها!

الإمبراطور

لقد سقط هذا المشروع، فمصر ليست بلداً فقيراً، وهو ليس الحاكم الصالح، والتي تعد مشكلته فقط في أنه إن لم يحالفه التوفيق، فقد يتقبل الشعب منه الفشل، إن كان بسبب العجز مع الاجتهاد، لكن تبين أن الحال ليس كذلك، وأن مصر فيها من الوفرة المالية، إلى درجة أن يتم تبديد المليارات على استراحات لقضاء ليلة، أو على قصور للإقامة المؤقتة، لتكشف لنا الوقائع أننا لسنا أمام شخص يريد الاستمتاع بلذة الحكم كرئيس لدولة بحجم مصر، لكنه يريد أن يرتفع إلى مقام “الإمبراطور” – ولا أقول “الملك”-  وهو الواضح من أدائه!

لقد قال صاحب الفيديوهات، إن شركته “أملاك”، هى من تولت إقامة الاحتفالية الخاصة بافتتاح قناة السويس، وكيف أن تكلفتها في حدود 50 إلى 60 مليون جنيه، في بلد فقير، مطلوب من الناس أن يجوعوا، وأن يتنازلوا عن “الفكة” لصاحب الخطاب المتسول، وذلك ليظهر السيسي ببدلة “المارشال”، وهى بدلة لا علاقة لها بالزي العسكري المتعارف عليه في مصر، ولم يكن استدعاء الباخرة الملكية من فراغ، وإن زاد عن ذلك بالسفه في الإنفاق، في مشروع فاشل، بدد فيه المال المصري، بدون دراسة جدوى، وبدون عرض الأمر على أهل الاختصاص، فقد عرض الفكرة جنرال هو مهاب مميش على جنرال هو عبد الفتاح السيسي في مكالمة هاتفية، فيعطي الجنرال الأول للجنرال الأخير أمراً عسكرياً بالتنفيذ، وهكذا تدار الأمور في مصر المحروسة، فبعد ذلك يتبين أن جنرالاً آخرا طلب من السيسي إقامة فندق، بدون أي فائدة استثمارية، فيصدر الأمر العسكري بالتنفيذ، ليتكلف هذا الفندق ملياري جنيه، في بلد يقوم البرنامج الرئاسي فيه على “جوع الشعب”!

وقد تجلى سلوك الإمبراطور، في عملية تمهيد الطريق المؤدي إلى مقابر العائلة، لتكون تكلفته مليونين وثلاثمائة ألف جنيه، من أجل أن يدفن الإمبراطور والدته، فيرى الناس “الأبهة” التي صار فيها من عاش على الشح، واقتات على الجوع، ومر بأيام في حياته يعيش على أحد الأسودين.. الماء بدون تمر!

وقد تجلى السلوك الإمبراطوري أيضا في تشييد عدد من القصور، قامت بها شركات مقاولات مختلفة، من الباطن، تحت ولاية المقاول الكبير ممثلاً في الهيئة الهندسية، ولا نعرف لماذا لم تكن الشركة المنفذة، هى القائمة على الأمر برمته، إلا إذا كان المستهدف هو تسهيل تربح بعض الأشخاص وبعض الهيئات، بعيداً عن رقابة الأجهزة الرقابية، ويدفع رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات السابق المستشار هشام جنينة، ضريبة علمه بحجم الفساد في هذه الهيئات، وبعد محاولة قتله، ها هو يتم الدفع به للسجن ليموت وتقبر معه الأسرار التي يحملها، عن فترة وجيزة  مكنه فيها الرئيس المدني من ميزانية هذه الهيئات!

ولم يكن إصراره والعائلة على اعادة ترميم قصر المنتزه، بربع مليار جنيه، قبل أن تتم الاستجابة للتعديلات المطلوبة من “أهل بيته”، لتكون في حدود 350 مليون جنيه، إلا لأنه يعيش في دور الإمبراطور، وأن الأسرة مندفعة في هذا الطريق، بشكل لا يحده حد!

وكانت الأمور واضحة منذ البداية، عندما تم اختياره وزيراً للدفاع فيحرص على أن يقيم قصره على أنقاض قصر المشير عبد الحكيم عامر، وبتكلفة قدرها 60 مليون جنيه، لاحظ أن سعر الدولار حينذاك كان في حدود سبعة جنيهات!

وإذا كانت “الجوقة” تتحدث عن أن “محمد علي” لم يقدم مستندات أو وثائق تؤكد صحة ما يقول؟، فلماذا لم يقدموا هم ما يؤكد نفياً لها، وأن التعاقد مع شركته “أملاك”، يخالف هذه الأرقام المعلنة، وهل هذه القصور المترفة، لا وجود لها؟.. وإذا كانت موجودة فهل يمكن قبول وجودها بهذا العدد، في بلد يعاني من وجود عدد كبير من القصور بلا مبرر، لم يزد عليها رؤساء مصر السابقين قصراً واحداً، لأنهم مع فسادهم قل أو كثر، لم يخططوا ليكونوا كما السيسي “إمبراطوراً”!

نهاية دولة العسكر

لكن دعك مما تقوله “الجوفة”، فهم قلة لا يمثلون أي نسبة معتبرة بين المصريين، الذين لا حديث لهم الآن، سوى هذه الفيديوهات، وما قاله “محمد علي”، على نحو كاشف بأننا أمام زلزال كبير، ليس فقط كشف حقيقة السيسي ومن معه، ولكنه مثل نهاية لدولة العسكر، لا يعني عدم صدور شهادة الوفاة، لتعنت أهل المتوفي وسطوتهم على الإدارة الصحية، أن المرحوم على قيد الحياة، وعند أول نزول للجماهير، سنشاهد “خلقا جديدا”، فهذا زلزال أقوى من زلزال تيران وصنافير!

فالزلزال الأول، وإن كان نهاية للتأييد من قبل القوى المدنية لوجود السيسي، وأخل بوضعه لدى البسطاء من الناس، فإن القوى الرافضة للدماء، لم تكن تريد موقفاً سوى على أرضها، وغلفت هذا التخاذل بشعارات مثل أن الدم أهم من الأرض، وهذا ليس صحيحاً لأن الدماء تسكب برضا تام دفاعا عن التراب الوطني، وهذا ليس موضوعنا الآن!

لكن هذه المرة فإن الزلزال، وصل لعموم الناس، فكفروا به بعد ايمان، وقد قرأت لمن كانوا يحسبون أنفسهم على المرحلة، ينتقدون، ويهاجمون، وبدا الأمر مفاجأة لهم، فليس أصعب على النفس، من أن يكتشف المواطنون، أن من يدعوهم للفقر، ويحدثهم عن العوز، ويقوم بتبكيتهم إذا أكلوا،  يعيش على حسابهم كما  الإمبراطور، ويهدر أموال الدولة المصرية على النحو الذي جاء على لسان “محمد علي”، والذي يعد مصدر قوته يتمثل في أنه واحد منهم، فلا يقدم نفسه على أن زعيم سياسي، أو أن لديه تطلعات سياسية، أو أنه ينازع السيسي على الحكم!

مصدر قوة محمد علي

إنه يتحدث لغة الناس، فهو منهم وإليهم، ويعترف بأنه ليس متعلماً، فلم يكمل تعليمه الجامعي، ولا يفهم في السياسة لأنه لم يمارسها، وأنه ليس محسوباً على تيار أو فكرة، إنه واحد مثل ملح الأرض، ثم إنه يمتلك الشجاعة التي يفتقدها أهله وعشيرته، فيهاجم رأس الدولة، ولاحظ أن الوجدان الشعبي صنع زعمائه على عينه، وفق مقاييسه هو، فقطاع الطرق، بالوصف والرسم، تحولوا إلى أيقونات شعبية يتغنى بأسمائهم المداحون، ولم يقبلوا أبدا التقييم الموضوعي لهم، لأن هذا التقييم سقط عليهم من أعلى، ومن أناس ليسوا منهم وليسوا من نبت أرضهم!

وقد رويت عنهم الأساطير، لأنه تصدوا للقوة الباطشة نيابة عنهم، أو تمثيلاً لهم، أو تعويضا عن ضعفهم وقلة حيلتهم، وهكذا “محمد علي”، إنه بالحسابات المنطقية جزء من منظومة الفساد، وإنه لم يخرج عليهم إلا بسبب عدم تمكينه من الحصول على مستحقاته، ولهذا فقد اندفع من ينطلقون من قواعد “الاستشراق” لمجتمعات هبطوا عليها من المريخ، يرددون هذه النغمة: وهل لو أعطوه مستحقاته المالية كان خرج عليهم؟!

إن جزءا من قيمة “محمد علي” لدى الناس أنه خرج من أجل نفسه، ودفاعاً عن حقوقه، والتي أخذها منه الغير بما لديه من قوة وبما يملكه من سلطة، ومن مثلوا أساطير في وجدان الشعوب لم يخرجوا في مواجهة القوي إلا من أجل مشكلات خاصة قد تكون صغيرة ومع المواجهة تغيرت قوانين الصراع، وتدافعت القضايا يساند بعضها بعضا.

إن القول عن “محمد علي” أنه كان جزءاً من منظومة الفساد، يشبه بالتمام والكمال القول إن “أدهم الشرقاوي” كان قاطع طريق، وأن “مصطفى هاشم” كان أحد الخارجين على القانون، فللدولة قانونها وللناس قانونهم.. ووفق قانون الناس فإن محمد علي “ولد” بما تعنيه الكلمة “ولد” من معان كبيرة، فهو إن كان فاسداً، فإنه الآن يقف في وجه الأسد، وهناك قيمة مضافة له عن الأشقياء القدامى، إنه لا يدعي بطولة أو شجاعة، فهو مثل الناس الطبيعيين يخاف، وهو مثلهم لا يفهم في السياسة، لكنه مع خوفه وجهله يقف بهذا الموقف الشجاع، وهذا مصدر قوته.

السيسي انتهى

فماذا يمكن أن يفعل معه نظام السيسي؟، يشهر به؟.. أن يصطاده من حياته الخاصة؟.. هو ليس مكترثا بهذا بل إنه ينبه بين الحين والآخر لذلك، لكن الناس قد تقبل زلاته، وخطاياه.. إنه منهم فليس زعيما سياسياً، وليس خطيباً يؤمهم في الصلاة، ويعتلي المنبر في يوم الجمعة وهم يجلسون عند أقدامه، فهو منهم وهم منه، وهم لهم أخطاء وخطايا، لكن تعريته ليس لأنه فاسد ولكن لأنه وقف في وجوههم

وبعيداً عن أهل السياسة، ومن يدعون وصلا بالهم العام، فقد أثر “محمد علي” في السواد الاعظم من الشعب، وأنهى أسطورة السيسي في وجدانهم، وأسقط هيبته المفترضة في نفوسهم!

فالسيسي انتهى شعبيا تماما. ولو خاض انتخابات حرة، فلن يحصل سوى على أصوات “أهل بيته” الذين يسعدهم أن يعيشوا في كنف إمبراطور!

وإذا خرجت الثورة، فسيكون وقودها جيش محمد علي من البسطاء، الذين تكشفت أمامهم الأمور وصارت واضحة، فالثورة القادمة ليست ثورة أحزاب أو تنظيمات، وليست ثورة وجهاء الناس وأهل السياسة.

إنه ربك الذي يضع سره في أضعف خلقه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه