ثورة الجياع.. الطريق الوحيد للعدالة الاجتماعية

سألني أحد أصدقاء صفحتي على الفيس بوك، لماذا تكررت كتاباتي على الصفحة عن المتسول الذي قتله أصحاب المحل لأنه سرق أو أخذ علبة مياه غازية؟، ولماذا يظهر انفعالي بشدة حول هذه الواقعة، رغم المآسي التي تحيط بالمجتمع في عهد الچنرال؟!

وعندما توقفت مع نفسي للإجابة عن السؤال، سحبني تيار التفكير ومتواليات المأساة المصرية إلى العمق الذي تجاوز موضوع السؤال إلى مشاهد وحقائق مفزعة تنذر بأزمة وكارثة لم يمر بها الوطن والشعب المصري من قبل.

يقول البعض إن صاحب المحل كان في ضيق مثل كل أصحاب المحال والتجار في مصر التي يعاني أهلها من تضييق اقتصادي مبالغ فيه، وتوتر معيشي غير مسبوق، وحالة من الركود لم تشهدها البلاد من قبل، وهو ما أدى إلى انفعاله على المتسول الذي سرق المياه الغذائية وقتله، هذا ليس تفسيري أو رؤيتي، هو تفسير أو تبرير البعض للحدث، ولكن بتحليل الوضع نجد جانبا آخر يعيش في مصر في رفاهية غير محدودة، ينعمون بالمال والمسكن في تجمعات مرفهة وتتكاثر ثرواتهم في تناسب عكسي مع ازدياد الفقر في معسكر العامة والدهماء، وينعمون بالحماية على نفقة البسطاء الذين يدفعون فاتورة توفير تكاليف حماية الأثرياء من دمائهم وعرقهم بالضرائب والرسوم والرشاوي والفردة وارتفاع أسعار السلع الأساسية اللازمة لحياتهم.

وتتشارك هذه الصفوة مع نظام حاكم فاشي مستبد ليشكلا حلفا طبقيا يعيش على مص دماء غالبية الشعب ونهبه، ورغم ذلك لم ينفعل صاحب المحل على من ينهبونه كل يوم بالرشاوي والفردة والرسوم والتضييق، وانفعل على متسول مسكين ربما يسرق قوت يومه ليعيش!

فهل المقهورون لا يملكون إلا الغضب على بعض، وقتل الضعفاء منهم، أم إن الحادث عكس خللا في تفاصيل الصراع اليومي بين الاستغلال والفقر، هذا الخلل أخفى مصيرا حتميا أكدته كل الوقائع التاريخية التي لا تكذب ولا تنحاز وتكشف عن أحداث مهمة ستفرض نفسها على مصر في القريب العاجل.

الثورة على الملك بيبي

جاء في بردية أيبور في وصف ثورة الجياع على الملك بيبي الثاني الذي حكم مصر 96 عاما: “هجم الناس على مخازن الحكومة واعتدوا على مقابر الموتى، وصبوا غضبهم على قصور الأغنياء، وانهارت الحكومة المركزية، وظهرت مقولات مثل (الأرض لمن يحرثها) حتى اضطر رجال الدين ومَنْ تبقى من الأغنياء للهجرة”.

نقلت البردية أن الناس صبوا غضبهم على قصور الأغنياء، ولم يقتلوا بعضهم بل على العكس، انعكس توحدهم في رؤية فكرية ومبدأ ثوري في مواجهة احتكار الملوك الآلهة ورجال الدين من خلال نظرية “الأرض لمن يحرثها”.

من الطبيعي أن يكون الصراع بين المستغلين والمنهوبين شرسا وعنيفا ودمويا، ومن الطبيعي أن الإفراط في الظلم والبغي والفساد والاستبداد سيؤدي إلى عنف مضاد أكثر شراسة وعشوائية، وهو ما اصطلح على تسميته بثورة الجياع، والتي يراها معظم الناس ثورة عفوية غير منظمة، انفعالية يمكن أن تحرق الأخضر واليابس وتدمر المجتمع، وأنا نفسي كتبت هذا من قبل وحذرت المجتمع منه، بل وطالبت المستبدين بترك مساحات من الديمقراطية تجنبا للانفجار العشوائي.

التخويف من ثورة الجياع

 والحقيقة التي أصارحكم بها أن الأمر ليس كذلك، وأن المخاوف التي تشاركنا فيها جميعا من ثورة الجياع كانت مخاوف مغرضة استخدمها بعضنا للتخفيف من حدة استبداد السلطة الباطشة كمناورة عملية يومية، والبعض الآخر استخدمها استخداما خبيثا في الترهب من أي فكر ثوري باعتباره طريقا للفوضى واللاأمان ..
الحقيقة يا سادة أن ثورة الجياع لا تنتهي بالضرورة إلى الفوضى والتدمير، وتهديد أرواح وأمن الجميع كما يشاع، ولكن يمكن أن تنتهي بمجتمع واعٍ ديمقراطي تكون الكلمة الأولى والأخيرة فيه للشعب، وذلك إذا استطاع الشعب بكل طوائفه ورؤيته السياسية الواعية النابعة من أفكار وفلسفات مفكرين أن يرشد هذا العنف؛ ليتحول من عنف عشوائي إلى عنف ثوري إيجابي بعيدا عن نخب المعارضة الإصلاحية، التي دائما ما تنحرف بمسيرة أى ثورة شعبية إلى الفشل، فالشعوب الجائعة لا تقودها النُخب، بل يقودها مفكرون وأفكار من داخل المعاناة ومن بين الجوعى. 

بدأت إرهاصات الثورة الفرنسية في سنوات مبكرة من القرن التاسع عشر، ومرت بعدة جولات فاشلة قبل تحقيق نجاحها الأخير، وإعلان جمهورية فرنسا القائمة على مبادئ الحرية والعدالة الاجتماعية، وكانت الثورة الفرنسية ثورة طبقية شرسة أو ثورة جياع، ورغم ذلك لم تحبط جولات الفشل جماهيرها التي أدركت بفطرتها الثورية التأثير السلبي للنخب الإصلاحية في قيادة الثورة، ولم يدفعها الإحباط وانتهازية الإصلاحيين إلى فقدان الأمل أو اللجوء إلى الفوضى المدمرة، ولكن ارتكن الشعب الفرنسي في مسيرته الثورية على أفكار ثورية أفرزت قيادات ثورية من بينها، هذه الأفكار التي تأثرت بشكل مباشر بكتابات الأدباء والمفكرين الثوريين، مثل فيكتور هوجو وروايته “البؤساء”، ونظرية العقد الاجتماعي لـ”چان چاك روسو”، واستطاعت فئات مثقفة من بين الفئات الجائعة الثائرة التى تربط بين هذه الأفكار والكتابات وغضب وثورة الشعب الفرنسي، ليتم تخليق فكر ثوري شعبي يعبر عن غالبية الشعب الجائع بعيدا عن النخب والطلائع الوسطية ولينتهى الأمر بنجاح الثورة.

وتجلى توصيف الحالة الفرنسية في هذه الفترة في تقديم هوتفيل هاوس لرواية فيكتور هوجو “البؤساء” جاء فيه: “ما دام ثمة هلاك اجتماعي، بسبب من القانون أو العرف، يخلق ألوانا من الجحيم على الأرض، ما دامت مشكلات العصر الثلاث: الحط من قدر الرجل باستغلال جهده، وتحطيم كرامة المرأة بالجوع، وتـقـزيم الطفل بالجهل، لم تحل بعد، ما دام الاختناق الاجتماعي لا يزال ممكنا في بعض البقاع، وبكلمة أعم، ما دام على ظهر البسيطة جهل وبؤس، تكون هناك حاجة إلى كتب من هذا النوع.

الطاقة الشاحنة للوجودان

 وجاءت رواية “هوجو” لتجسد معاناة المواطن الفرنسي في هذه الفترة بسبب الاستغلال وانتهاك الكرامة والجهل، فكانت الكلمات مثل الطاقة الشاحنة لوجدان شعب مقهور يبحث عن دليل للثورة، وبمثل هذه الكلمات وبمثل أفكار “جان جاك روسو”، نشأت القيادة الشعبية لأنجح ثورة شعبية في العصر الحديث بديلة عن قيادة النخب الإصلاحية التي تربك الثورات الشعبية، ودائما ما تسبب ميوعتها وعدم وضوحها إلى ردة ثورية وثورة مضادة مثلما حدث في مصر بعد يناير2011.

 والشاهد أن الشائع حول عشوائية ثورة الجياع وشيطنة صورتها بالشكل الذي يجعل منها جحيم البشرية المؤرق، ليس إلا كابوس وهمي يبثه أصحاب المصلحة، فثورة الجياع المرتبطة بفكر ثوري محلي نابع من الواقع المرير، وتحت قيادة من نسيج أصحاب المصلحة، هي الحل الأمثل لتطبيق الحرية والعدالة الاجتماعية.  

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه