ثورة الجياع

 

لأن المآسي والمهازل كثر وفرض علينا فلا أقل أن نختار ما نهتم به من مهازل أو مآسي، ولقد اخترت ألا أهتم بمهزلة مباراة السيسي وشفيق والتركيز معها في سهرات الشتاء الطويلة، وفضلت الاستمرار في الاهتمام بالمآسي الكثيرة المحيطة بنا، وآخرها أحداث مسجد الروضة، وربما لو تخلصنا من بعض مآسينا أرفه عن نفسي ببعض من المهازل.

تتكرر الآلام ولا نعتاد عليها فاعتياد الآلام ربما يكون رحمة، ولكننا كل مرة نتألم وفي كل مرة تزداد آلامنا، ورغم ذلك لم ندمن الأوجاع بل أدمنا الصمت القاتل.

ذكرتني مشاهد حزن أهالي شهداء الروضة بقصيدة الشاعر محمود درويش «وعاد في كفن» التي جمع فيها بين الحزن والألم وبين الحسرة على الضعف والخنوع والنوم في الجبن والكسل والاستسلام، حتى أصبح الموت مصيرا محتوما ينتظره جميع المستضعفين في الأرض فيقول في أبيات القصيدة:

يا أمه!

لا تقلعي الدموع من جذورها

خلي ببئر القلب دمعتين!

فقد يموت في غد أبوه…. أو أخوه

أو صديقه أنا

خلي لنا….

للميتين في غد لو دمعتين…. دمعتين

ولا يستسلم محمود درويش لفكرة أن الضعف والاستسلام قدر، فيراه نتيجة لفعل رديء وهو النوم في أحضان الخوف والجبن فيختم قصيدته قائلا:

يا أصدقاء الراحل البعيد

لا تسألوا: متى يعود

لا تسألوا كثيرا

بل اسألوا: متى يستيقظ الرجال

 

رؤوس في الرمال

لن يستيقظ الرجال إلا إذا أخرجنا رؤوسنا المدفونة طواعية أو كرها في الرمال حتى نرى الحقيقة التي نهرب منها إلى الرمال والاستسلام لترهات مفروضة علينا في هيئة توقعات واحتمالات ونظريات حول إرهاب مزعوم، بينما القتلة الحقيقيون يختفون داخل أردية الحكام وأولياء الأمور حتى أصبح الذئب أبا للحمل الذي سيأكله.

أبحث عن المستفيد… قاعدة يعرفها الجميع ويتجاهلها الجميع… قطيع من المستغلين والقتلة وأصحاب المصالح يجمعون المليارات من عرق الملايين من شعب يدور دورات عشوائية داخل «تراك» لا نهاية له، لا يستغلون فقط عرقهم وإنما يتاجرون بآلامهم ودمائهم، وحتى جثثهم بعد الموت تتحول إلى مبررات وأسباب لدعم بقاء الظلم والبطش الغاشم، فإذا سقط المئات أو الآلاف في هذه الرحلة بفعل السعي غير الرحيم أو بفعل القتل العمد فالمستفيد هو من يقف خارج «تراك» الآلام وليس داخله.

ربما يتمرد العشرات من داخل «التراك» بفعل الظلم والقهر ليخرجوا شاهرين سيوفهم باحثين عن أقوات يومهم، وغالبا يُقتلون ليتحولوا إلى قصص وأساطير وهمية عن عصابات وهمية تقتل النساء والأطفال والعزل، أساطير يختبئ وراءها القتلة من أهل خارج التراك.

ثورات الجوعى

وثورات الجوعى يا سادة هي أقدم ثورات البشرية، ولم يبحث لها المؤرخون عن ذرائع أو مبررات، ولم يقبلوها داخل قوالب إخوانية أو شيوعية أو إرهابية مثلما يحدث الآن في عصور الردة الاجتماعية.

خرج المصريون في عصر الدولة القديمة قبل الميلاد غاضبين ثائرين على الملك بيبي الثاني بسبب الجوع والقحط والظلم ولم يؤثر كونه نصف إله في الأرض على ثورتهم الجائعة، حكم بيبي الثاني 94 عاما وغادر عرشه بثورة شعبية عارمة أزالت معظم صوره وتماثيله من المعابد، لم يوجه المؤرخون الاتهام لتنظيمات الكهنة أو جماعات طبقية، بل اعترف التاريخ بالجوع والفقر والظلم كسبب منطقي للثورة والعنف.

وفي بداية القرن الحادي عشر الميلادي وفي عهد الخليفة الفاطمي المستنصر بالله خرج المصريون في ثورة جوعى بسبب الجفاف والفساد وجبروت العسكر، ونهبوا المخازن وبيوت الأثرياء وقتلوا من يعارضهم، ورغم ذلك لم يصفهم المؤرخون بالإرهابيين ولم يُخرجوا أسباب عنفهم عن سياقه التاريخي، فركز المؤرخون على الظروف المتردية التي كان يعيشها المصريون، والتي أدت إلى هذا العنف.

لا أبرر للعنف ولكن إذا كان هناك إصبع اتهام يوجه ضد الذي يمارس العنف، فإن هناك أربعة أصابع توجه للمسؤول عن أسباب هذا العنف والمسؤول عن إفقار المجتمع ونهبه وافقاده لكل قواعد الأمن والأمان.

الطامة الكبرى تكمن في أن هناك تعقيدات سياسية واقتصادية ومصالح محلية ودولية تداخلت لتفرز دوافع مختلفة وحديثة لوجود الإرهاب والعنف، ومنها أن العنف الضار بالمجتمعات والبشر قد يكون مفيدا لبعض الفئات التي تجد فيه مبررا لوجودها أو بقائها أو استمرارها، لهذا ظهر النوع الأخطر من الإرهاب الذي يتم تصنيعه في أروقة أجهزة الأمن والمخابرات بحرفية شديدة لتبرير مواضع سياسية أو تدخلات خارجية أو حماية كيان استعماري أو تثبيت قواعد حكم غاشم أو جميعهم معا.

وعرفت الساحة السياسية في مصر المؤامرات التي تستهدف الوقيعة بين طوائف وفئات الشعب المصري، والتي كان أبرزها إشعال الطائفية بين المسلمين والمسيحيين لتفريق المجتمع من جهة ولإيجاد تبرير لاستمرار الأنظمة الفاشية وهو ما يؤكده ثبوت تورط وزارة الداخلية في أحداث الاعتداء على الكنائس قبل ثورة 2011 لتأكيد الفتنة الطائفية في مصر، والتفرقة الطائفية قد لا تتوقف عند حد الأقباط والمسلمين ولكن يمكن تطويرها إلى فئات أخرى والتمهيد لفتن أخرى لم تعرفها مصر طوال تاريخها مثل الفتنة بين الشيعة والسنة، أو المتصوفة والوهابيين وهو ما يجعلنا ننظر بعين الريبة للخطاب الإعلامي الرسمي الذي ركز من اللحظة الأولى لحادث الروضة على أن المسجد المعتدى عليه مسجد صوفي، وأن المتطرفين من أتباع أبن تيمية يكفرون الصوفية.

كل ما ذكرته هي تعقيدات كما قلت مفروضة علينا لتخفي حقيقة واحدة لا تخضع لأي احتمال وهي أننا إزاء نظام غاشم فاسد أقل ما يوصف به، بسلامة نية، أنه غير قادر على حفظ الأمن بصرف النظر عن مبررات الإرهاب… لا تسألوا عن أسباب الإرهاب بل اسألوا متى نكسر حاجز «تراك» الآلام لنخرج منه ثائرين لا متمردين.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه