ثوار المجتمع الافتراضي

«وأشرب لوحدي كاس فاضي دايما بافكر فيه مليان»، كلمات من أغنية لموسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب عنوانها «بافكر في اللي ناسيني وبأنسى اللي فاكرني».

 ما علينا من عنوان الأغنية واللوع والذل العاطفي الذي يهواه العشاق ويتلذذون به، العبارة التي تعنيني هي التي كتبتها في مقدمة المقال، هذه العبارة تشعرني بحالة ومعنى خارج سياق الأغنية وأتذكرها دائما وأنا متفاعل مع مواقع التواصل الاجتماعي وفي مقدمتها «فيسبوك»، وخاصة فيما يخص التفاعلات السياسية والاجتماعية التي كنت أشتبك معها دائما من قبل ظهور منصات التواصل الاجتماعي الإلكترونية، إلا أن الأمر محتواه أختلف وتأثر باختلاف الأدوات وتطورها.

معذرة قد يرى البعض أن هذا الحديث نوع من أنواع الفانتازيا، ولكنه ليس كذلك، وخاصة أننا نعيش واقع مر يشكل فانتازيا باكية تجاوزت المعنى التقليدي للكلمة، فإذا كانت الفانتازيا هي الخروج عن المألوف، فنحن نعيش واقعا تجرد من واقعيته المنطقية وانطلق في دوائر ما بعد الفانتازيا لما يحمله من مأسٍ وآلام تتجاوز حدود المنطق؟

ما علينا لن أتعمق في المدخل الفكري للمقال حتى لا يضعني في مخاطر رفض النشر بتهمة الفذلكة ولنعد للتفسير الواقعي.

الأزمة التي تعيشها النخب السياسية والتي تحتكر قيادة المشهد السياسي في مصر، هي أنها تأثرت سلبا بحدود مواقع التواصل الاجتماعي.

ما قبل ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، كانت محددات الموقف السياسي والأيديولوچي تتعلق برؤية شاملة لواقع واضح بكل تفاصيله ولا توجد فيه مناطق مظلمة، أما بعد انتقال ساحة العمل السياسي من ميدان الواقع إلى مواقع التواصل الاجتماعي، فقد تم تقيدها بحدود طبيعة المجتمع الافتراضي الذي تختاره أنت بنفسك وتختار فيه مؤيديك ومعارضيك، وتحدد فيه القضايا التي تريد التعامل معها، والأولويات من وجهة نظرك أنت وليس باعتبار الاحتياج المجتمعي، وبالتالي فإن النتائج التي تصل إليها من خلال تفاعلك تكون بنسبة كبيرة مصنوعة في عالمك الافتراضي وبعيدة كل البعد عن العالم الواقعي، وهو ما انتهى بنا لكارثة ما بعد 2011 ؛ حيث استغلت عناصر الدولة العسكرية العميقة الفجوات المظلمة وغير الواضحة بين القوى السياسية التي كان يعيش كل منها في عالم افتراضي صنعه لنفسه، يغنيه عن التفاعل مع الرؤى والمشاهد الواقعية المختلفة، ويشجع على توسيع على عدم قبول الآخر باعتباره وجود هامشي في مجتمعه الافتراضي.

تنويه مهم أحب أن أشير له ،وهو أنني لست ضد مواقع التواصل الاجتماعي ولست من المهاجمين لها باعتبارها كشافا للمجتمع يظهر فساده الذي يخشى الوضوح والشفافية وهو ما أطلقت عليه مخاطر مواقع التواصل على «الحسنة المخفية» للصوص، ولكني أدرس وأراجع المخاطر التي تحيط بالواقع السياسي نتيجة التفاعل غير المرشد مع المجتمع الافتراضي، على حساب تجاهل الحقائق والمشاهد التي لا يمكن أن تظهر إلا في المجتمع الحقيقي، وكيف أننا في مصر مصابون بعلة الاستغراق في ما هو جديد وليس التفاعل مع ما هو جديد، والفرق كبير فالتفاعل مع ما هو جديد هو شكل من الانتقال الهادئ العاقل من أسلوب لأسلوب دون تجاهل أو إهمال لأي عنصر من عناصر الموضوعات المجتمعية، ودون إرباك للرؤية الواضحة المتكاملة للمجتمع، أما القفز من أسلوب لأسلوب، هو نوع من المغامرة المراهقة التي تحول الأدوات إلى هدف في ذاته ويفصل المغامرين عن واقعهم الحقيقي ليحولهم إلى مجتمع من السكارى الواهمين، يتلاعب بهم أي طرف يعيش بعيدا عن حالة الإغراق الافتراضي، وغالبا ما يكون هؤلاء من جماعات الاستبداد محددة الرؤى والهدف.

ما أتحدث عنه الآن هو الثورة والسياسة والسراب، وكيف أن الاعتماد على تحديد الموقف السياسي والتحالفات والتقاربات والرفض والإيجاب، من خلال مجتمعات افتراضية هو نوع من السراب ينتهي دائما بكارثة السقوط في هاوية الاستسلام للقمع والاستبداد.

التطور اللايجابي

التطور التكنولوجي ثورة إيجابية إذا ما تم التعامل معه من خلال وعي وعلم وثقافة وتوظيفه كعنصر بجانب كل العناصر الموجودة، ويمكن أن يكون نقمة سلبية إذا ما تم التعامل معه من خلال مجتمعات منهارة اجتماعيا وثقافيا وعلميا وبالطبع اقتصاديا؛ حيث يتم التعامل معه باعتباره عنصرا جديدا له بريق يدفع مستخدميه إلى تجاهل العناصر الموجودة في المجتمع.

وسأعطي لكم مثلا توضيحيا من خلال تجربة شخصية، منذ سنوات طويلة كنت متدربا في صحيفة، وكلفني أستاذنا الراحل محمود المراغي بإجراء حوار مع شخصية سياسية، وفورا أجريت الحوار على طريقة س وج، والتزمت فيه بكل المحاور التي طلبها مني الأستاذ، وبذلت جهداً في عملية التبيض وإعادة الصياغة، وتوجهت يوم التسليم منتفخا فخرا وأنا أقدم عملي، كان الأستاذ محمود شديد الأدب ويتحدث بصوت منخفض هادئ ووجه يحمل ابتسامه لا يغيرها أي غضب، فنظر للموضوع وقرأ منه ما قرأ ثم التفت لي وسألني «قابلته»، قلت له «لا سألته بالتليفون»، وكان التليفون الأرضي أحدث وسيلة آنذاك للتواصل مع المصدر، فقال لي بهدوء «وكيف تجري حوارا من دون أن تتعامل وجها لوجه مع الذي تحاوره وتنظر في عينه وترى انطباعاته وانفعالاته وتحدد أسالتك وانطباعك، وكيف لا تستفيد من المكان المحيط بالحوار وتصفه، الحوار بالتليفون ليس حوارا صحفيا يا منير»، وقام بكل هدوء بتمزيق الحوار، وقال لي «أنا سأتصل به وأحدد لك موعداً آخرا تقابله وتأخذ معك مصورا»، رحم الله أستاذنا محمود المراغي، لم يعاصر الحوارات الصحفية بالقص واللزق الإلكتروني من خلال شبكة الإنترنت.

ما علينا، غرضي من هذه الرواية أن أشير إلى أن استخدام التكنولوجيا والوسائل الحديثة للتفاعل مع القواعد والمعايير والقواعد هو أمر مفيد، أما استخدام التكنولوجيا وخاصة مواقع التواصل الاجتماعي والمجتمعات الافتراضية كبديل عن المجتمع الواقعي، فهذا نوع من التخدير الذهني.

انسحاق الافتراضي أمام الواقعي

إذا كانت النخب والفرق السياسية قد غرقت في دوائر افتراضية من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، واعتبرت أنها الوسيلة الوحيدة الناجحة للوصول للمجتمع والتأثير عليه وتوعيته بالثورة، وهذا الوهم أصاب الساسة المصرين بعد نجاح إضراب 6 من أبريل (نيسان) 2008. فإن المعسكر الآخر من المستبدين والفاشيين كانوا أكثر فطنة عندما تمسكوا بوسائل الاتصال التقليدية في الشوارع والتجمعات حتى ولو من خلال قنوات فاسدة، فأصبحوا الصوت الأعلى والأكثر تأثيرا، وخاصة بعد انشغال النخب والفرق السياسية بمواقع التواصل الاجتماعي، وهجرهم للمجتمع الواقعي.

أعتقد أننا لو طلبنا من مجموعة من الباحثين أو المتحمسين لأية ثقافة، ولتكن الثقافة النوبية، نشر هذه الثقافة في مجتمع بعيد عنها، فسيطلبون تجهيزات تعتمد على أجهزة كمبيوتر وفتح مواقع إلكترونية مدعومة بميديا متطورة، وتبث عملها ودعايتها للثقافة النوبية والفلكلور من خلال مقر ثابت في أي مكان، ولن يحققوا النجاح الذي يمكن أن تحققه جماعات ممن يحملون هذه الثقافة وعاشوا وتعايشوا مع المجتمع الجديد، وهي الوسيلة البسيطة التي انتشر بها الإسلام في شرق آسيا، والوسيلة البسيطة التي نشر القرامطة الشيعة رؤيتهم السياسية من خلال حركة سرية عشرات السنوات بين الناس، وانفجروا بثورتهم التي وصفها البعض بأنها ثورة اشتراكية أكثر منها ثورة دينية

الشاهد أن الاعتماد فقط على التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي كمحدد وحيد في العلاقة مع الشعوب والتأثر بها والتأثير عليها، هو أسلوب محكوم عليه بالفشل والعزلة بل والانسحاق بالشعب تحت بيادة الفاشية الأكثر واقعية، لا أدعو للتخلي عن التكنولوجيا ومواقع التواصل الاجتماعي، ولكني أرى أنها ستكون ذات تأثير ثوري مضمون لو لم نهمل المعايشة اليومية مع الشعب وهمومه، فلن يقود ثورة هذا الشعب سوى من تجرع همومه واحترق بمآسيه.

أما الذين يحددون رؤيتهم ومواقفهم السياسية وتناقضاتهم مع بعض من خلال حواراتهم المغلقة على مواقع التواصل الاجتماعي بعيدا عن أصحاب المصلحة، وكأن كل واحد منهم على حدة يشرب من كاس فاضي متوهما أنه مليان كما تقول كلمات الأغنية أقول لهم أنتم بالنسبة للشعب المقهور شكل بلا مضمون، شكر الله سعيكم.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه