تونس في وضع القَنْزَحَة

د. نور الدين العلوي*
ليست القنزحة من لسان العرب ولكنها من لسان أهل الحاضرة الخضراء وقد رموا بها رمية فأصابتهم فهم يتقنزحون. وما نرى لهم من فرج إلا بالنزول إلى أدوية الشعب وأعشابه المُرَّة. مما يحرض الأمعاء الموجوعة على التخفف مما بها من أسباب القنزحة. ذلك أن الوجبة كانت شديدة وبها مما يوجع ويشد شداً شديداً. وقد راموا أكلها وحدهم فأمسكوا فهم يتقنزحون ولعل في ذلك خير. فرب انسداد يورث فرجا.
كانت القناعة كنزا لا يفنى.
قيل في الأثر أنها كذلك ولكن الجماعة رغبوا في كل شيء فعجزوا عن الهضم السريع. ملكوا بقوة رأسي السلطة التنفيذية (الحكومة والرئاسة) وملكوا رأس السلطة التشريعية (المجلس النيابي) ومدوا أيديهم إلى الهيئات الدستورية فأخذوها وبسطوا نفوذهم على الإعلام الرسمي والخاص فوجهوه ولهم فوق البيعة نقابات أمنية تفرض شروطها على الإدارة وتحدد جدول أعمال المجلس وتختار له ما ينظر فيه وما لا يجب المساس به. ولهم تحت البيعة إرهابيون بالروموت كنترول لا يتحركون إلا ليفرجوا عن معضلة في الحكم. لكن الأمر لا يجري على هواهم. هناك انسداد شديد في القنوات المؤدية إلى الانفراج ولا مهرب من تسريح المجاري.
الشارع  غير راض والمزاج الفردي والعام سيء في كل مكان. والناس تبحث عن سبب للاشتباك. الشارع يستجيب بسرعة للتحريض حتى تصبح كل القضايا جديدة  بالطرح. الشارع يتحدث عن إحساس فاجع بالخديعة، التي مارسها عليه السياسيون منذ الثورة. لقد أركبوهم في القطار الخطأ فوجدوا أنفسهم في مكان لم يقصدوه ولا يجدون سبيلا للعودة إلى المنطلق. الشارع يرى أن البلد الذي رغب في استعادته قد عاد إلى مالكيه الأصليين وعاد الناس (الفقراء ) إلى موقعهم في انتظار صدقات الدولة. إذن ما نفع الشهداء ولماذا ماتوا ؟هذا السؤال يتحول بدوره إلى معكر رئيسي للمزاج.
وتشتد القنزحة الرسمية. تعديل مزاج الشارع يقتضي تدوير دولاب الاقتصاد وتوفير العمل ولا مجال لذلك فالسَّادة الذين يسندون الحكومة يحرضونها على تعديل المزاج بالعصا الغليظة كي لا تمسَّ مصالحهم المتناقضة مع مطالب الشعب الكريم. حكومة تخاف من معارضتها الشعبية وتخاف أكثر من طبقتها البرجوازية التي تسندها أو التي أوصلتها للحكم وتستعملها لحفظ مصالحها.
في قمة القنزحة الجميع يتذكر ماركس في المانفستو (خذ السلطة بقوة الاقتصاد ثم استعملها للمزيد من القوة الاقتصادية) المثال مدرسي جداً. هذا المسار لا يعيش إلا بالقمع وهو ما تعجز عنه الحكومة بفعل انفلات الحرية المجنون. لقد فاتت هذه على ماركس نفسه.
 الشارع لا يرحم الحكومة.
تحتاج الحكومة إلى وقت لتنجز شيئا يغفر لها وجودها الإجرامي لكن الشارع لا يمنحها الوقت. لعبة الإمهال أنتجت دوما خديعة الشارع. الذي مل التعامل معه كطفل غير راشد يوعد بالحلوى حتى ينام. هناك انقلاب كامل في الوعي باللحظة والشارع يسبق الحكومة. الوقت الذي منح سابقا للسلطة دام 60 عاما وأنتج الفقر وقد آن الأوان لكي تلهث السلطة خلف رغبة الشارع أو أن تلهث هاربة منه. وهو ما يجري الآن إنه يحاصرها في زاوية ضيقة ويجبرها على القنزحة. الشفافية في الموجود وفي طرق إدارته وإلا فهي النهاية لاحتمالات الدولة نفسها ويوشك الأمر أن يكون محواً كاملًا لبناء كامل رغم تهيب الكثير من تخيل ذلك مجرد التخيل. فئات كثيرة من الشارع (المناطق الداخلية المهمشة) لم تجد نفسها في الدولة منذ تأسيسها والسؤال الذي تطرحه كل يوم لمصلحة من أحافظ على هذا البناء الذي لا أجد فيه سكنا.
مطلب الشفافية في عقود الطاقة والمناجم أولا على بساطته الظاهرة سيجر المستفيدين من السلطة وحماتها إلى الانكشاف أمام الرأي العام وكشف الفساد في قضية أولى سيؤدي إلى توسيع دائرة المطالبة ببقية القضايا بما يؤدي إلى كسر احتكار المعلومة التي تمكن الإدارة العميقة من منافع كثيرة بشكل غير قانوني. تعي الإدارة العميقة أن مطلب الشفافية هو استدراج إلى كسرها نهائيا بحرمانها من أهم أدوات التحكم التي بين يديها أي المعلومة. فقدان أدوات السيطرة وانتقال ملكيتها إلى الشعب عبر نوابه وإعلامه الحر(ولو بعد حين) يعني تأسيسا قانونيا جديدا للإدارة  ينهي دور البيروقراطية إلى الأبد. مطلب الشفافية  إذن هو الذي يسبب القنزحة للحكومة الممسكة تسأل الله الفرج بالإسهال. فلا هي قادرة على تدوير الدولاب الاقتصادي ولا هي قادرة على الاستجابة لطلب الشفافية الإدارية الذي سيؤدي إلى تدوير الدولاب الشامل للدولة. إنها ترى نهايتها لأنها ستفقد قاعدتها.
قاعدة النظام تهتز ولا تجديها القنزحة.
المعركة هناك على قاعدة النظام التي نجت من الموجة الأولى للثورة. سقط رأس النظام السياسي ولكن قاعدته بقيت كامنة وقد أنقذت ما أمكنها إنقاذه حتى استعادت أنفاسها في انتخابات 2014 إذ وضعت رجالها في الجهاز التنفيذي والتشريعي ولكن هناك لكن تسبب الإمساك والإسهال في ذات الوقت.
الطبقة البرجوازية مطالبة بإنقاذ حكومتها عبر الاستثمار الحقيقي في مناطق التهميش التي أطلقت الثورة ولا تزال تتربص بمطالبها لم تبرد ولم تنس.ومكونات هذه الطبقة ليست مستعدة  لذلك ولو كانت رغبت لأنقذت بن علي من أزمات التشغيل التي أودت به. طبقة تأخذ ولا تعطي. تستعمل الدولة ولا تساعدها. تلتهم المجتمع وتمص دمه وتهرب أموالها إلى بنوك سويسرية. إنها طبقة تأكل ولا تتبرز. لذلك تعجز الحكومة عن الحلول ويبقى أمامها أن تقترض لمنح الرواتب للموظفين الذي يخافون من الشفافية.
إنه وضع كارثي بالنسبة لأي حكومة. شعبها لا يرحمها بصمته أو موته ومتنفذوها يرفضون كشف سبل التصرف ولو بالقانون وبرجوازيتها تجبرها على إعفائها من الضرائب في الوقت الذي كان يجب أن تدفع لها لتظل قائمة. فمن لها؟ الآن؟ وهل يكفي أن تذهب لإبرام اتفاقية عضوية مع الناتو لكي تنقذ الوضع. الهروب إلى الإمام بالبحث عن حليف قوي ذكَّر الناس بقنزحة أبي الحسن الحفصي (منتصف القرن 16) الذي التجأ إلى شارل الخامس أمام ثورة العربان فنصره دونهم لكنه احتل بلده وربط دوابه في مسجده وألزمه بيته لا يغادره. منذ ذلك الهروب والبلد بين احتلال اسباني أو تركي أو فرنسي ويبدو أن البعض وجد رغبة في استبدال محتل بآخر فعقد صفقة إنقاذ وجوده في السلطة ضد شعب متعكر المزاج وليس له علاج إلا بإنهاء وضع القنزحة. فرب إسهال يفرج كربة وللعربان حشائش كثيرة تجري الجوف وتكبس المرخوف وتنهي وضع الخوف.
_____________________

* كاتب تونسي- أستاذ علم الاجتماع

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه