تونس: السياسة في أيامها الأخيرة

د. نور الدين العلوي*

يدعونا الوضع التونسي الآن وهنا  أن نكتب بكثير من الشجن والأسى إذ كأنما نقف على الربوة الأخيرة لمشاهد غرق سفينة السياسة في ماء ضحل على تربة رخوة. غرق نهائي يفتح على رثاء السياسة والنخب. وقد كان الأمل أن نقف على ربوة الأمل ونرى مستقبل أطفال تونس تصنعه ثورة  مختلفة عن كل ما سبق. الوضع الآن ما لم تقع معجزة في الشرق  يفتح على  احتمال وحيد. المزيد من الغرق  في الضحالة إلى حين حصول أحد أمرين  أحلاهما مر علقم  الاستسلام المميت  أو العنف المدمر. 
يتركب المشهد الآن  من  نخب كسولة  تزايد  خلف حواسيبها على سياسيين عاجزين خلف مكاتبهم ولا أحد من الصفين مستعد لمد يده للناس الغارقين  في سعي يومي لإنقاذ أجساد مرهقة تحت غلاء الأسعار ورداءة الخدمات في كل القطاعات. صورة لجمهور كأنه مسافرون التقوا صدفة في محطة سفر لوجهات مختلفة. الجميع يرى أخطاء الجميع ولا يخطو في اتجاه حل  ما  ينقذ السفينة. حتى ليصبح السؤال عمن أخطأ أكثر مجرد عمل ترتيبي لتسجيل المواقف.
كيف تم تذويب الثورة في مسار مطلبي؟ ومن فعل ذلك بالآمال التي تعلقت بتغيير حقيقي؟ هذا السؤال بدوره نخبوي عاجز أو هو يبحث عن  مشجب لتعليق الأخطاء والتخفف من المسؤولية.وأسوء منه الارتداد إلى السؤال  هل حدثت ثورة حقا في تونس؟ فنفي الواقعة الأولى نفي لما بعدها وراحة أبدية من السؤال.
السياسة فعل أخلاقي  أو لا تكون.
هذه القناعة قادمة من زمن قديم جدا ولكنها لم تفقد صلاحيتها إلا في تونس. ولقد رأينا أن كل أمر سياسي جميل استند في بنائه إلى قيم ومبادئ جسدها رجال مؤمنون وليس آخرهم السيد موخيكا الرئيس الفقير الزاهد الذي قفز ببلده إلى ديمقراطية عريقة في وقت وجيز وانسحب بنبل الأنبياء. وهذه القناعة تستند إلى تاريخ سياسي أجمل من فيه رجال تخلقوا بقيم سامية فخلدوا في السياسة وفي العقول وفي القلوب. فلماذا لم تجد الثورة من هؤلاء بعضا يقودها إلى منجاتها.
أجزم أن الطبقة السياسية في تونس وكثير من النخب المفكرة والكاتبة والفنانة لا تقر بهذا في القول وفي الممارسة لأنها في تقديري هي ثمرة التعليم التونسي ونظام التربية  الذي ساد منذ دولة البايات وتحول إلى مكوّن أساسي في الشخصية المحلية. ولم تؤسس دولة  الاستقلال لخلافه وإن وسّعت المدرسة إلى كافة تراب الوطن. فلتربي الناس بقصد أو بدونه على مادة أساسية هي بث روح براغماتية نفعية تستبعد الفداء والشهادة والإيثار وتربي على التدبير الفردي وتبني شخصية ذكية في مجالات محددة هي مجالات الكسب المادي لكنها بلا خيال خلاق وإبداعي. لقد بنت المدرسة التونسية نظامها التربوي على الارتزاق لا على الإبداع. فساد بين المتعلمين أن التعليم يفتح على الراتب والمكسب المادي فقط. وما عداه رفاه يمكن الاستعاضة عنه بالمزيد من الكسب المادي.هذا الربط النفعي البحت قتل كل نفس خلاق وصنع مواطنا موظفا مغلق الأفق  مفتوح المطمع. ومن هذه النفس الضعيفة والهشة الفاقدة للطموح العام دخلت الدكتاتورية دوما وأذلّت الناس الذين لم يشعر أكثرهم بالمذلة لأنهم دخلوا في منطقة المكاسب والغنيمة بقطع النظر عن الذٍّلة المحيطة.
لقد كان للدكتاتورية من نفس زاوية المنفعة الضيقة أن تصمد لو وسعت دائرة المتكسبين منها لكنها وبطبيعة هذه الروح المتكدية للحكم الغنائمي ضيقت القائمة فارتد عليها ضيق أفقها. غير أن الثائرين عليها من أبناء مدرستها لم يكونوا أكثر من طلاب غنائم بلا أفق غير الكسب السريع فأعادوا إنتاج  فعل النظام الساقط ليحلوا محله ويحولوا أفق الثورة التغييري واحتمالات التأسيس على ثقافة مختلفة بشخصية مختلفة إلى زيادة في الرواتب(الغنائم) وهو الأمر الذي الوحيد الذي تربوا عليه. ولا يجب أن نستغرب النتيجة فغير ذلك كان سيشكل  خرقا لقاعدة سببية بسيطة وفعالة هي ترابط النتائج  بالمقدمات.
صورة العالم بصفته مكسبا شخصيا.
المدرسة التونسية وعلى هوى الزعيم المؤسس وطبقا لشخصيته نفسها أنتجت  شخصية وحيدة بذكاء وحيد يحقق غاية وحيدة وينصرف عن التخيُّل والخلق غير ذي الفائدة المادية المباشرة والعاجلة. هذا ما صنعت المدرسة وخريجيها الذين اشتغلوا بالسياسة خاصة وقدموا النموذج بعد الثورة وجدنا هذه الشخصية هي التي تقود الإضرابات التخريبية وتوجه حماس الثورة إلى المطلبية المحضة يستوي في ذلك الأطباء والجامعيون ورؤوس الإدارة أي الفئات الأعلى درجة في التعليم(الطبقة الوسطى التي صنعتها المدرسة التونسية). لذلك اختصر الأمل في التغيير الشامل كما في كل الثورات النبيلة إلى تغيير وضع شخصي فرداني لا ينشغل بهموم وطنية وقومية أو إنسانية. في هامش هذه اللَّهفة على المكسب الفئوي والشخصي سنكتشف بفعل الثورة نفسها أن أكثر المشتغلين بهذه القضايا لم يكونوا إلا مرتزقة شعارات يتدبرون بها تمويلا أجنبيا بل يقتسمون مع السلطة التي سقطت التكاذب باسم حقوق الإنسان وباسم تحرير فلسطين ومساندة قضايا التحرر في العالم. عقلية التكدِّي بالعدد والضارب المدرسي والدرس الخصوصي تتجاوز كل الممنوعات الأخلاقية فتجعل الشعارات الكبيرة بابا لزرق فردي محض. وتحول المدرسة إلى سوق وتحوّل السياسة إلى لصوصية وخداع وتملق للجمهور واستغباء لأحلامه. وأرى هذا نتيجة مباشرة لنظام تصنيع الشخصية في المدرسة وسببا لانحراف الثورة عن مسار تصنيع القيم على الأقل في المدى المنظور. لقد شكلت المدرسة التونسية صورة العالم في ذهن التونسي من ثقب باب المصلحة الفردية فلم ير غير جيبه وبيته. فلما وجد أمامه سلطة ساقطة غنم سلبها وزاد عليه ما استطاع وما كان له أن يفكر بحكم تكوينه أنه مدعو إلى تغيير نموذج وشخصية وبناء مدرسة أخرى لجيل آخر لرؤية أخرى للعالم. لم يكن ذلك من دروسه التونسية.
السياسي الذي يتمعش من وعد ما
صورة السياسة الحديثة صنعها بورقيبة والسياسي التونسي بعده هو “فرخ بورقيبي” هو خريج مدرسة بورقيبة السياسية يفكر مثل بورقيبة ويستنسخه في القول والحركة ونمط التفكير. ويعيد إنتاج غروره وأكاذيبه الصغيرة والقصيرة الأمد في إيهام الناس بوعد ما لا يتحقق أبدا.لأنه لا يملك أسباب تحقيقه في الواقع. الواقع الذي يقتضى تغييرا جذريا بكلفة عالية تكلف الزعيم متعته وتشقيه في السعي لتحقيق وعده. الشقاء الذي اجتنبه الزعيم يوما كان التغيير الجذري ممكنا. هو نفسه الذي اجتنبته نسخه المتكالبة على الغنيمة بعد بزوغ احتمال تغيير من عدم إرادتهم القاصرة عن التغيير.
التغيير الجذري معناه المرور بمرحلة صعبة من التقشف الداخلي والمواجهة الخارجية وكلفة عالية من الصراع مع قوى معادية في الداخل والخارج. بما يؤجل المنفعة المحتملة من السلطة مهما كانت ضئيلة. تقييم ينطلق من نفس الاختصارات المنهجية. القائمة على المجهود الأدنى في الفكر والسياسة والنضال.
القرف الأخير القرف الدائم.
هذا الذي أودى بثورة لم تخل من رومانسية ومن طموح تغييري حقيقي وترك لدى قطاع عريض من المتعلمين والنشطاء  مرارة في الحلق  وإحساس بالقرف والاشمئزاز من طبقة لصوص احترفت القفز إلى المغنم في زمن الدكتاتورية ولم تتورع عن ركوب شعارات الثورة وسرقتها من أصحابها لذلك نرى سفينة الثورة تغرق في مياه ضحلة لكن تحت الضحالة يوجد غرين نتن من سياسات الخنوع للبنوك الدولية والقوى المتصهينة تملي على الشباب وعلى البلد ما ينبغي أن يكون. إنها نفس القوى التي أنتجت اليأس من التغيير ودفعت الوطنيين إلى العزلة قبل الثورة وهي تعيد دفعهم الآن إلى نفس الزاوية ولا تترك لهم إلا خيارا أخير ووحيدا هو خيار العنف لكن الذي يعف عند المغنم يعرف أن العنف أسوء من الانسحاب.ففي العنف يوجد خاسر لا يهون هو الوطن. لذلك يفضلون عيش آخر أيام السياسة على أن يكون ذلك آخر أيام الوطن.
________________

*كاتب تونسي- استاذ علم الاجتماع

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه