تنوع جبهة المواجهة للتعديلات الدستورية

لا داعي لمناقشة حجج الداعين لتعديل الدستور فهي مجرد تغطية لإرادة الجنرال الرافض لفكرة العودة إلى بيته أو ثكنته العسكرية.

تجري التريبات على قدم وساق لإنجاز الانقلاب الدستوري الثالث للمشير عبد الفتاح السيسي بعد انقلابيه السابقين الأول على دستور 2012 الذي أقسم على الالتزام به وحمايته، ثم انقلب عليه وعلى الرئيس الشرعي للبلاد، والثاني هو الانقلاب على خارطة الطريق التي أعلنها بنفسه ومثلت دستورا خاصا لانقلابه، وحددت جملة من المسارات لم ينفذ غالبيتها وأهمها البدء بانتخابات برلمانية وليس رئاسية كما دعت تلك الخارطة، وتمزيق المجتمع على عكس ما طالبت به بتشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية.

الاستفتاء الصوري

لم يلتزم السيسي بالدستور الذي وضعه عبر رجاله المقربين، والذي دعا نساء مصر ورجالها للخروج لدعمه، وجرت عملية الاستفتاء الصوري عليه وسط طبل وزمر ورقص في ظل مقاطعة كبيرة دفعت الأذرع الإعلامية للصراخ طلبا للمصوتين.
تعامل السيسي مع الدستور واللجنة التي صاغته وأعلنت أنه أعظم دستور في الكون من البداية على طريقة مبارك “خليهم يتسلوا” بينما كان يضمر في نفسه عدم الاكتراث بهذه النصوص التي لا تستحق الحبر الذي كتبت به من وجهة نظره، فهو مقتنع تماما أنه هو الدستور متأسيا هذه المرة بسلفه الأسبق الرئيس الراحل أنور السادات الذي قال نحن الذين نصنع الدساتير.
منذ أفصح السيسي عن موقفه السلبي ضد الدستور الذي وصفه بأنه كتب بـ”حسن نية”، وأن الدول لا تدار بحسن النوايا، انطلقت دعوات التغيير بزعم أن الدستور ليس قرآنا، فقامت الأذرع الإعلامية بالتسويق للفكرة، وقام أحد النواب بجمع عشرات التوقيعات من نواب آخرين لمطالبة البرلمان بتقديم طلب التعديل..
 وعندما اضطر نظام السيسي للتراجع عن الفكرة تحت ضغوط خارجية سحب النائب اقتراحه فورا، وتنصل العديد من النواب من توقيعاتهم، وحين قرر النظام مجددا المضي قدما في عملية التعديل ظهر النائب ذاته مدعيا حصوله على 60 توقيعا من زملائه النواب على مذكرة تطالب البرلمان بترتيب عملية التعديلات والاستفتاء عليها، وفتح البعض مكاتبه لتلقي توكيلات المواطنين المطالبة باستمرار السيسي في تكرار ممل لتجربة استمارات تمرد إذ يتم الإعلان عن ارتفاع الأرقام تباعا لتصل ربما إلى مائة مليون.

منذ عهد السادات

الحجج التي قدمت قبل 38 عاما عند تعديل الدستور في نهاية عهد الرئيس السادات لفتح مدد الرئاسة هي ذاتها التي تقدم اليوم، ففي الأولى كان السادات صاحب مشروع السلام مع إسرائيل وهو ما يتطلب بقاءه في السلطة لإكمال المسيرة، واليوم يقدم السيسي باعتباره صاحب مشاريع كبرى (تحت الإنشاء) تتطلب استمراره في السلطة، وفي المرتين أيضا تردد الجوقة أنه لا يوجد في مصر من يملأ مكان الرئيس في إهانة واضحة للشعب المصري الذي قدم العديد من المنافسين الأقوياء في أول انتخابات تنافسية حقيقية في 2012.
لا داعي لمناقشة حجج الداعين لتعديل الدستور فهي مجرد تغطية لإرادة الجنرال الرافض لفكرة العودة إلى بيته أو ثكنته العسكرية، لكن المهم هو معرفة حجم المعركة وحدود التعديلات المتوقعة فهي لن تقتصر على فتح مدد الرئاسة وزيادتها إلى 6 سنوات لكل مدة بدلا من 4 فقط، وهي النقطة الأكثر إلحاحا، لكنها ستمتد إلى العديد من المواد الدستورية الأخرى، وهو مالم ينفه النائب مقدم مشروع التعديل الذي تحدث عن 5 مواد دستورية قابلة للزيادة.

اللعبة التاريخية

من الطبيعي أن حاكما عسكريا اغتصب السلطة عنوة لن يقبل بسهولة ترك هذه السلطة التزاما واحتراما لنصوص دستورية حددت فترة حكمه ( حتى لو جاء عبر انتخابات زائفة) ومن الطبيعي أن يتجاوز هذه النصوص الدستورية وقد فعل منذ يومه الأول ..
ومن الطبيعي أن يسعى فقط لإعادة تفصيل هذه النصوص على مقاسه، لتعزيز ديكتاتوريته، ومن الطبيعي أن يصل به الشطط أخيرا ليقول كما قال فرعون “أنا ربكم الأعلى”، وفي الأمثال المصرية “قالوا يا فرعون من فرعنك فرد أنه لم يجد من يصده”، هنا بيت القصيد وهو من يواجه هذا الجموح من السيسي وعصابته!!
الطبيعي أن يتصدى الشعب المصري كله لهذه المهزلة الجديدة التي تحتقره، ومن الطبيعي أن الذين غنوا ورقصوا للدستور والذين ساهموا في كتابته والترويج له، يكونون في طليعة المعركة دفاعا عن دستورهم، وهذا يشمل القوى السياسية والنقابية والنخب الثقافية والفنية والمؤسسات الدينية التي تبنت ذلك الدستور.
سيمارس السيسي وعصابته اللعبة التاريخية، والتي استخدموها أيضا منذ اليوم الأول لانقلابهم “فرق تسد”، ستحاول تلك العصابة استمالة بعض القوى والمؤسسات إلى جانبها وتحييد البعض، لتحصر معركتها مع فئات أقل يسهل تشويهها، واغتيالها معنويا، وتمرير ما تشاء من تعديلات، وإذا لم ينتبه الجميع لذلك فسوف يؤكلون تباعا، لتخلو الساحة تماما لجنرالات الفساد والخيانة والتفريط.
المعركة لا تقتصر على مدد الرئاسة وبالتالي فهي ليست معركة القوى السياسية وحدها، بل إن التعديلات ستطال نصوصا عديدة في مجالات متنوعة يعتبرها السيسي مزاحمة له في ملكه، ومن تلك النصوص الخاصة باستقلال الأزهر واختيار شيخه مدى الحياة، وذلك ردا على المواقف المستقلة الأخيرة التي أبداها شيخ الأزهر ..
ولا يظنن البابا تاوضروس ومساعدوه أنهم بمنأى عن هذه التعديلات بعد جهودهم الكبيرة في مساندة النظام ودعم الدعوة لللتعديلات ..
 فالمساس بالنصوص الخاصة بالأزهر سيستدعي مباشرة أيضا ومن باب التوازن أو نزع فتيل الأزمات الطائفية تعديل النص الخاص بوضع المسيحيين، واستقلالية الكنيسة وعدم خضوعها لرقابة مؤسسات الدولة الأخرى وعلى رأسها الجهاز المركزي للمحاسبات ..
 وستطال التعديلات حتما صلاحيات البرلمان والحكومة، وحق الرئيس في تعيين الحكومة وإقالتها بدون قيود، كما أن القضاء والإعلام والأجهزة الرقابية مثل الجهاز المركزي للمحاسبات لن تكون بمنأى عن التعديلات سواء هذه المرة أو في جولات مقبلة، فالسيسي لا يريد نصوصا تغل يده في تعيين وعزل رؤساء الهيئات القضائية أو المستقلة، كما أنه لا يريد نصوصا توفر حماية لحرية الصحافة واستقلاليتها أو حرية تدفق المعلومات أو الشفافية حتى لو ظلت هذه النصوص شكلية.

لو تضامنت

ربما يعتمد السيسي ونظامه تعديلات محدودة هذه المرة تركز على مدة وصلاحيات الرئيس، ولكن هذه التعديلات ستفتح الباب للتعديلات الأخرى التي ترواد خياله، في جولات لاحقة لن تكون بعيدة، وسيعتمد ذلك على قوة ردود الفعل على هذه الجولة الأولى، والحقيقة أن القوى المضارة من التعديلات العاجلة أو الآجلة تتنوع ما بين قوى سياسية في الداخل وفي الخارج، وتجمعات نقابية وتجارية ونخب ثقافية ومؤسسات دينية، ولو تضامنت هذه القوى ضد هذه التعديلات فإنها ستنجح بالتأكيد، ولن يستطيع السيسي وعصابته تمرير جريمته وانقلابه الجديد.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه