تغريدة أوزيل تهز الصين

يصعب القطع باضطهاد شامل لكل أبناء قومية (الإيغور)، فالصين دولة منغلقة سياسياً، ولا تسمح للإعلام المستقل بالاطلاع على حقيقة ما يجري

 

غالباً، لم تكن الصين تتوقع أن تأتيها ضربة من شخص آخر غير ترمب، الذي يخوض حرباً تجارية عنيفة معها منذ دخوله البيت الأبيض، ويفرض عليها رسوماً جمركية ضخمة، ويدفعها للدخول في مفاوضات طويلة وشاقة للتوصل لاتفاقية اقتصادية وتجارية سيجري التوقيع على مرحلتها الأولى قريباً لإعادة ضبط حركة التجارة بين البلدين، وهما أكبر اقتصادين في العالم.

جاءتها الضربة يوم الجمعة الماضي (13 من ديسمبر/كانون الأول 2019) من فرد وحيد، وليس من رئيس عتيد. من لاعب كرة قدم شهير، وليس من رئيس الدولة العظمى. هذا الفرد هو مسعود أوزيل الذي ليس له  سلطة رسمية مرهوبة عالمياً، ولا قدرات مادية؛ اقتصادية أوعسكرية ضخمة مثل التي للدولة الأمريكية، إنما أهم وأقوى ما لديه هو الضمير الحي، والقيم، والإنسانية، والأخلاق، والتعاطف مع المظلومين، وهم مسلمو الصين من قومية (الإيغور) في منطقة تركستان الشرقية سابقاً، التي تغير اسمها إلى مقاطعة شينجيانغ، فهم، وحسب الشائع، يواجهون الاضطهاد، والتمييز الديني والقومي، ويتعرضون للانتهاكات في ممارسة شعائرهم الدينية ونمط عيشهم وثقافتهم وحقوقهم الإنسانية، وتنتشر صور مسربة عن معسكرات اعتقال واسعة يقول خبراء الأمم المتحدة إنه يحتجز فيها من عشرات الألوف إلى مليون شخص بدعوى إعادة تأهيلهم وتثقيفهم سياسياً، وكأنهم مجرمون.

يصعب القطع باضطهاد شامل لكل أبناء قومية (الإيغور) فالصين دولة منغلقة سياسياً، ولا تسمح للإعلام المستقل بالاطلاع على حقيقة ما يجري في الإقليم، لكن يمكن القول إن هناك تضييقاً عاماً عليهم، وخاصة النشطاء والمعارضين والنخبة الدينية والمثقفة، والصين تفرض قيوداً عامة قاسية خشية التمرد على السلطة المركزية القاسية، أو الدعوات الانفصالية، أو انتشار الأفكار المتطرفة، وهو تخوف مبالغ فيه، وربما يمثل ستاراً لقمع أي فئة ترفع شعارات إصلاحية.

تغريدة أزعجت دولة كبرى

تغريدة واحدة من مسعود أوزيل المواطن الألماني من أصل تركي، واللاعب في نادي أرسنال الإنجليزي، كتبها على حسابه في موقع (تويتر) يسلط فيها الضوء على أوضاع واحدة من الأقليات المسلمة، أزعجت الصين الدولة الصاعدة لمصاف القوى العالمية الكبرى، رغم أن نظامها لا يعبأ بأي انتقادات لملفه في الحريات وحقوق الإنسان.

 انتشرت التغريدة بشكل واسع، وعرت جانباً مما ربما يحدث بحق مسلمين بذريعة التصدي للأفكار المتطرفة ومجابهة الإرهاب، ولا يثبت للآن أن هناك تطرفاً وتشدداً وممارسات عنيفة بين (الإيغور) وحتى لو خرج منهم فرد أو أفراد منحرفون، أو كان لهم تنظيم سياسي خارجي يطالب بحقوقهم في التنمية وممارسة منظومة حياتهم بشكل طبيعي، فهذا لا يسوغ فرض عقوبات جماعية على شعب بالملايين تمتد جذوره ووجوده وتاريخه وتراثه في إقليم كان يوماً مملكة مستقلة.

قال أوزيل: في تركستان الشرقية المصاحف تُحرق، والمساجد تُغلق، والمدارس تُحظر، وعلماء الدين يُقتلون واحداً تلو الآخر، ويُساق الرجال قسرياً إلى المعسكرات، والعالم الإسلامي غارق في الصمت.

كلمات واضحة ومحددة لم تسقط في فخ التزويق الدبلوماسي، ولا المناورة، ولا المداهنة، وما الإنسان إلا موقف وكلمة حق، ثم يحمل عصاه ويرحل، ليجد سلوكه النبيل مكاناً مضيئاً في تاريخه.

التغريدة والأمم المتحدة والكونغرس

ما سطره اللاعب الشهير، لم يختلف عما سجلته تقارير الأمم المتحدة بشأن انتهاكات السلطات الصينية، التي أعلنتها المنظمة العالمية على الملأ، كما تأتي بعد تشريع أصدره الكونغرس الأمريكي أخيرا يتضمن عقوبات على بيجين بسبب قمع (الإيغور) والفارق أن أوزيل كان صريحاً في كلماته وابتعد عن الحديث الباهت.

ورغم مرور وقت طويل على أنباء ما يجري في “شينجيانغ” لم يكن هناك موقف سياسي ولا إنساني يُعتد به من جانب العواصم العربية والإسلامية، باستثناء مواقف دبلوماسية مائعة من بلدان محدودة.

ليس مطلوباً إعلان حرب على الصين، ولا تأزيم العلاقات معها، ولا حتى مقاطعتها تجارياً، فالأمة الإسلامية في حالة ضعف وتشتت لا تمكنها من فرض شروطها على الأمم الأخرى رغم أنها تمتلك مقومات هائلة؛ بشرية ومادية واستراتيجية، وإذا أحسنت توظيفها لصارت قوة مُعتبرة، ولعاملتها شعوب الأرض باحترام ومهابة، ولكان للمسلمين وزن في جميع أماكن تواجدهم.

القضية إنسانية وحقوقية، قبل أن تكون عقائدية، فأي فصيل أو جماعة تتعرض للانتهاك في أي بقعة في العالم على خلفية دينية أو مذهبية أو قومية أو عنصرية يجب إدانة ما تتعرض له ومواجهته، فالحرية الدينية والثقافية حق أصيل لكل البشر لا يجب التعرض له، ولا التضييق عليه، ولا يكون سبباً لعقاب فردي، أو جماعي.

لهذا نحترم مسعود أوزيل

انزعجت الصين لأن أوزيل نجم كروي معروف، وله جمهوره الواسع في مختلف أنحاء العالم، وعدد متابعيه على تويتر يبلغ نحو 25 مليوناً، وهو يفوق عدد سكان عشرات من الدول الصغيرة منفردة، وتغريدته نالت انتشاراً كبيراً في كثافة الإعجابات، والتعليقات الداعمة، وإعادة تغريدها من جانب أناس من جنسيات كثيرة.

لماذا نحترم مسعود أوزيل؟. لأنه وظف شهرته وتأثيره لمحاولة إنصاف فئة من الناس تتعرض للتعتيم، وياليت كل النجوم والشخصيات الشهيرة والمؤثرة تنحاز للمقهورين في كل بلد، هذه النُخب من القوى الناعمة يجب أن تكون شاهد عدل، لا شاهد زور، ولا شاهد صمت، في القضايا العادلة، وإذا كان للأنظمة حساباتها ومصالحها النفعية، فإن النُخب يجب أن ترتفع فوق الانتهازية والأنانية.

أوزيل الذي يسخر البعض من كونه لاعب كرة، لا قيمة لما يفعله غير إلهاء الناس، يُثبت أن تأثيره أوسع وأكثر جدوى من علماء وأكاديميين وباحثين، بل ومن مسؤولين رسميين، وحكومات، بدليل أن كلماته القليلة هزت سلطات الصين التي تصرفت بتوتر عندما ألغت بث مباراة لفريقه مع فريق آخر في الدوري الإنجليزي، وهاجمته وزعمت أنه لا يعرف ما يحدث في الإقليم، وأن معلوماته مغلوطة، وهي مبررات تتناقض مع ما رصدته الأمم المتحدة في تقاريرها من ممارسات لنظام معروف بقبضته الحديدية سبق وسحق الطلاب الداعين للإصلاح والديمقراطية في ميدان السلام السماوي عام 1989.

بيجين دعت أوزيل لزيارة الإقليم، وهذا جيد، وتلبية الزيارة ضرورية شريطة توفير حرية الحركة والذهاب للأماكن التي يرغب في زيارتها، وإتاحة الفرصة له للحديث مع السكان، ولننتظر ما سيقوله إذا قبل الدعوة، فالهدف النهائي هو معرفة الحقيقة المجردة، والفرز بين الواقع الصادق وبين الإشاعات والتشويش، ورفع الغبن عن الأقليات في مختلف البلدان، ونشر التسامح والمحبة وتكريس الحقوق.

من أبوتريكة إلى أوزيل

يرتفع قدر أصحاب المواهب بقدر ما يكونوا إنسانيين. وكما لن ينسى الناس لـ”مسعود أوزيل” موقفه لصالح المضطهدين من (الإيغور)  فإن الناس لا ينسون للنجم محمد أبوتريكة موقفه لصالح غزة خلال العدوان الإسرائيلي عام 2008 عندما كشف خلال مباراة لكرة القدم عن قميص كان يرتديه أسفل قميص المنتخب المصري مطبوع عليه شعار تضامني لنصرة غزة، هذه اللفتة الرمزية كان لها أبلغ الأثر لدى الرأي العام، وأحرجت نفاق المجتمع الدولي المتقاعس عن إيقاف الاعتداء الوحشي، ولا يزال هذا النفاق مستمراً في عالم متوحش فاقد للعدالة والإنسانية.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه