تصريحات الأنبا يؤانس وانتهاكات التاريخ الوطني للأقباط

 

 

الطائفية ليست الاحتراب بين الطوائف، وفي مصر بتخصيص أكثر ليست الاحتراب بين المسلمين والمسيحيين كما هو شائع ومتعارف عليه، الطائفية هي تغليب مصالح طائفة في مجتمع على مصالح العامة والمجموع، وتحويل مصالح الطائفة إلى معيار للعلاقة مع الجماعة.

الأسبوع الماضي خرج علينا الأنبا يؤانس أسقف أسيوط بخطاب للشعب المسيحي يدعوه فيه للنزول والمشاركة في الاستفتاء على تعديل الدستور والتصويت بنعم، وهذه حريته تماما، وإن كنت متحفظا على استخدام المنبر الديني في التوجيهات السياسية، ما علينا، السبب الذي استند عليه الأنبا هو أن المسيحيين يعيشون أزهى عصورهم من ناحية الاستقرار والأمان والدليل على ذلك كثرة دور العبادة الخاصة بالدين المسيحي والتي خشي ذكر عددها خوفا من الحسد!

الشاهد هنا أن موافقة رجل الدين المسيحي على تعديل الدستور مدفوعة في الأساس بمصلحة دينية خالصة وهي توفير دور العبادة للمسيحيين ودعوته الشعب المسيحي إلى الموافقة على تعديل الدستور لهذا السبب فقط وبصرف النظر عن أى آثار سياسية أو اقتصادية أو مجتمعية لهذا التعديل على المجتمع والشعب بكل فئاته، وهو ما أكده بصورة أوضح عندما استطرد في كلمته قائلا إحنا مش سياسيين، أي أنه يحكم ويختار في موضوع سياسي يخص الوطن بمعيار طائفي محض.

وقبل أن يتحذلق متحذلق ويقول لي وماذا عن رجال الدين الإسلامي، أقول له نفس الكلام ينسحب على أي رجل دين أو طائفة تقدم مصالحها الطائفية على مصالح الشعب بكل فئاته وطوائفه.

الأقباط والاحتلال الأجنبي

لا أستطيع القول إن الموقف الطائفي الذي تبناه الأنبا يؤانس هو موقف جذري في فقه الديانة المسيحية، ولكني أعتقد أنه راجع لحالة المسخ التي طالت الأنظمة الحاكمة ورجال الدين الرسمي فارتبكت الذمم واختلطت المشاهد والمعايير، والدليل أن هناك عبر التاريخ مواقف كثيرة لرجال الدين وفي لحظات تاريخية حرجة اثبتوا فيها أنهم جزء من الوطن ووضعوا مصالح الشعب في المقدمة عن مصالح الطائفة أو الجماعة.

عقب الاحتلال الإنجليزي لمصر عام 1882م، تحول المجتمع المصري إلى مجتمع مقاوم لتحالف قوى الاحتلال وقوى النظام الحاكم الخائنة التي فرطت في استقلال البلاد وتعاملت مع الغزاة وكـأنهم فاتحون.

ورغم أن المحتل الإنجليزي كان أقرب عقائديا للمسيحيين المصريين، إلا أن الأقباط المصريين أثبتوا أن الانتماء للوطن هدف أسمي من الانحياز الأعمى والمتعصب للعقيدة، وتحصنوا بمصريتهم في مواجهة كل المغريات التي كانت تستهدف دفعهم للخيانة، وكان موقفهم مرتبطا بموقف رفض الشعب المصري بطوائفه المختلفة للاحتلال، وبغض النظر عن الامتيازات الطائفية التي سيمنحها لهم المحتل ومنها التوسع في بناء دور العبادة ورغم أنه كان أمرا ليس به أي مشكلات ولا عقبات داخل المجتمع المصري آنذاك.

وفي عام 1895م تجمع عدد من الأقباط المصريين المستنيرين من كل الملل إنجيليين وكاثوليك وأرثوذكس، لإنشاء أول جريدة قبطية تجمع الأقباط في موقف وطني موحد يدعم كفاح الشعب المصري كله في مواجهة الاحتلال.

كان المحرك الأول للأقباط مثل كل المصريين هو مصريتهم وهويتهم القومية وليس الانتماء العقائدي والاختلاف الطائفي مثلما أشار الأنبا يؤانس.

وفي 22 نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 1895م صدر العدد الأول من جريدة «مصر» التي تعبر عن الطائفة المسيحية بافتتاحية وطنية قوية كتبها المؤسس شنودة المنقبادي استهلها بهذه الكلمات «اللهم استمع أدعيتنا وتقبل طلبتنا، وأنر بروح الحكمة والفهم بصيرتنا، ولا تجعلنا نهتم بشؤون الغير قبل الاهتمام بشؤون أمتنا وإصلاح داخليتنا، ورفع راية العدالة والحرية والمساواة على ربوع أمتنا».

وعندما تعرض في الافتتاحية للهدف من إنشاء الجريدة قال: «نظرت إلى حالة المصريين بعين التأمل وإذ ببذور التدهور والتفكك في طور النمو، ووجدت أنه من العار أن لا يكون للأقباط جريدة معتدلة تعمل بقلب مخلص وغيرة صادقة على خدمتهم وقيادتهم إلى المبادئ القومية والإصلاح الصحيح».

الملاحظ هنا أن الحديث كله يتعلق بمصلحة الشعب المصري وأزمته والأهداف ليست مختذلة في مصالح وأهداف طائفية ضيقة مثلما فعل الأنبا يؤانس واختصر الموقف من تعديل الدستور الامتيازات الممنوحة للأقباط في بناء دور العبادة!

الخراب

ومن الموضوعات التي تناولها العدد الأول لجريدة مصر موضوع الاتحاد قوة وجاء فيه «أي أمة تنقسم على ذاتها مصيرها الخراب، وأي شعب تمسك أفراده بأذيال الاختلاف كان هدفاً لمخالب التطرف، فكفانا انقساماً»

وجذبت جريدة مصر الكثير من الوطنيين المصريين للكتابة فيها ومن أهمها سلسلة مقالات سينوت حنا تحت عنوان «الوطنية ديننا والاستقلال حياتنا» وهو ما دفع سلطات الاحتلال الإنجليزي ونظارة الداخلية إلى مطاردة محرريها والتضييق على الجريدة التي وصفها اللورد كرومر بأنها جريدة وطنية متطرفة وظلت الجريدة تقوم بدورها الوطني في مواجهة الاحتلال ومؤازرة الشعب المصري في الدفاع عن استقلاله، حتى أغلقها ضباط النظام الجمهوري المصري عام 1966م ولم يشفع عندهم الدور الوطني التي قامت به الجريدة في مواجهة الاحتلال البريطاني.

أين الأنبا يؤانس من هذه الروح المصرية؟

وقبل هذا التاريخ بمائة عام وتحديدا في عام 1799 م وأثناء الحملة الفرنسية لم يستجب الأقباط المصريون لمغريات الفرنسيين بإعطاء امتيازات لهم مقابل تسهيلهم احتلال مصر، وقاوم الأقباط الحملة مع المسلمين وفي أبريل (نيسان) 1799 تصدوا لفرق من الحملة الفرنسية وهزموهم في قرية بني عدي.

وأثناء حكم محمد علي كانت روسيا القيصرية تبحث عن مبرر لها للتدخل في شؤون مصر لتتنافس بمطامعها الاستعمارية مع المطامع الإنجليزية والفرنسية آنذاك، فتوهموا أن الأقباط المصريين يمكن أن يقوموا بهذا الدور بسبب الاتفاق معهم في العقيدة المسيحية وعرض قيصر روسيا على بابا الإسكندرية وضع الأقباط تحت الحماية الروسية وجاء رد البابا المصري بالرفض ودار حوار بينه وبين مندوب القيصر: هل ملككم يموت؟ فأجاب مندوب قيصر روسيا نعم إنه ككل البشر يموت فرد عليه البابا نحن في حمى رب لا يموت.

وفي السبعينيات من القرن الماضي وبعد توقيع أنور السادات لاتفاقية سلام مع العدو الصهيوني، طلب من البابا شنودة توجيه الأقباط للحج في بيت المقدس ضمن سياسة التطبيع مع إسرائيل فرفض البابا شنودة متحديا رئيس الجمهورية، معلنا أن الأقباط لن يدخلوا القدس إلا بعد تحريرها وتطهيرها من دنس الصهاينة.

المصلحة الطائفية الضيقة

ولو كانت الرموز الوطنية القبطية المصرية قد تعاملت مع هذه الأحداث وغيرها بمنطق المصلحة الطائفية الضيقة مثلما فعل الأنبا يؤانس لقويت شوكة الاحتلال الإنجليزي والاحتلال الفرنسي في مصر ولتمكنت روسيا القيصرية من الإجهاز على مشروع الدولة الحديثة لمحمد علي، ولضعفت حركة المقاومة مع العدو الصهيوني في مصر.

والحقيقة أن المسخ في موقف الأنبا يؤانس وغيره من رجال الدين الرسميين المسيحيين والمسلمين يتناسب مع حالة المسخ التي أصابت مصر في حكامها ودوائر حكمها وإعلامها، هذا المسخ الذي أفرز تحالفا من الانتهازيين والمتربحين أجهزوا على الوطن ولكنهم لم يدمروه بعد ولن يدمروه طالما مصر ولادة بشباب يستلهم العبرات والمواقف والوطنية من أجيال ورجال سبقوهم صدقوا ما عاهدوا الوطن عليه.

ألا تستحي أيها الأنبا…

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه