“تسعينية” الإخوان.. جدل الاحتفال وضروراته

شعار جماعة الإخوان المسلمين

في مستهل سلسلة من الفعاليات التي ستستمر حتى نهاية العام، نظمت جماعة الإخوان المسلمين فعاليتها الكبرى لتخليد الذكرى التسعين لتأسيسها في مدينة إسطنبول التركية يوم الأحد الماضي.

جاء الاحتفال وسط تباين في المواقف بين مؤيد ومعارض، وبين انتكاسات ونجاحات، ووسط تغيرات إقليمية عاصفة تستهدف تغيير الخريطة الجغرافية والسياسية للمنطقة.

كان تنظيم تلك الاحتفالية ( التي غضب البعض من اسمها) ضرورة للتأكيد على وجود جماعة الإخوان وسط هذه الأنواء، وفي مواجهة ادعاءات عن موتها، وكانت ضرورة لتأكيد عالميتها في مواجهة جهود “لقطرنتها” أي اعتبار كل فرع من فروعها هو مجرد جماعة قُطْرية لا علاقة لها تماما بغيرها، حتى لو كان ذلك في شكل تنسيق كما يحدث بين الأحزاب الاشتراكية والشيوعية أو الليبرالية حول العالم، وكانت الفعالية ضرورة للتأكيد على منهج الجماعة وثوابتها في مواجهة مؤامرات تسعى لتشويها وتصنيفها كجماعة إرهابية، كما كانت الفعالية ضرورة لرفع الروح المعنوية لأبناء الجماعة أنفسهم الذين يعانون الضربات في عدة دول على رأسها مصر(الدولة الأم) وفلسطين، وسوريا وليبيا واليمن والعراق وغيرها، والتأكيد لهم أن الجماعة لا تزال رافعة للواء لم تسقطه، وأنها وإن كانت تتعرض لضربات في بعض الأماكن فهي تحقق نجاحات في أماكن أخرى، كما أن ما تتعرض له من ضربات ليس جديدا فقد تعرضت لمثله من قبل ثم تعافت منه.

تركزت انتقادات المعترضين على الاحتفالية من شباب الإخوان وغالبيتهم مخلصون لمبادئهم، ولكنهم متحفظون على قيادة الجماعة على ثلاث محاور، أولها: التكاليف الباهظة للاحتفالية والتي كان ينبغي توجيهها لدعم أسر المعتقلين والشهداء، وثانيها: عدم ملاءمة الوقت لمهرجان فني بينما دماء أبناء الجماعة وغيرهم من المصريين لا تزال تسيل، وثالثها: أن الظرف الذي تمر به الجماعة إقليميا ودوليا وما تتعرض له من ضربات هي الأكبر في تاريخها لا يسمح بهكذا احتفالات.

أما الحجة الأولى الخاصة بالتكاليف الباهظة لهذه الاحتفالية فهي غير صحيحة، فالقاعة التي جرت فيها، والحافلات التي نقلت الحضور إليها ومنها، وبقية الأمور اللوجستية كلها، كانت من ترتيب الجمعيات الأهلية التركية التي شاركت في الاحتفالية، وكانت جزءا أصيلا منها، ضمن لجنة تحضيرية دولية، وبالتالي لم يعد هناك مجال للادعاء بأن التكاليف الباهظة كان من المفترض توجيهها لأسر الشهداء والمعتقلين.

وأما الحجة الثانية وهي عدم ملاءمة الوقت للمهرجان الفني والغناء احتراما لدماء الشهداء، فهي حجة داحضة أيضا، فالأغاني والأناشيد الحماسية التي توقظ الهمم وتلهب الحماس، وتحيي النفوس هي أمور مطلوبة، وهي جزء أصيل من أي عمل مقاوم، وقد كانت منصة رابعة تشدو بهذه الأغاني ذاتها بعد مذبحتي الحرس الجمهوري ومذبحة المنصة دونما اعتراض، كما كانت تقام عليها أفراح الزواج، ولا تزال هذه الأعراس تقام ولم يقل أحد بمنعها احتراما لدماء الشهداء؛ ذلك أن هذه الأفراح تعد نوعا من المقاومة أيضا في مواجهة خصم سياسي يريد كسر الروح المعنوية تماما، ونشر الإحباط واليأس بين مقاوميه، ودفعهم للعزلة والانطواء، وحرمانهم من أي مظاهر للبهجة.

وأما الحجة الثالثة وهي عدم ملاءمة الظرف العام للجماعة بهكذا احتفالات بينما هي في أصعب حالاتها، فالحقيقة أن من يقول ذلك غالبا ينظر بنظرة قُطْرية لما تتعرض له الجماعة في مصر فقط، ويتجاهل وضع الجماعة المختلف في دول أخرى.

ومن ناحية ثانية فإن هذا المشهد الذي ظهرت به الجماعة في احتفالية إسطنبول يسهم في إعادة الثقة والاعتبار للجماعة على المستوى الإقليمي والدولي، ويؤكد للجميع بقاءها رغم كل الضربات التي تعرضت لها.

ولعل متابعة ردود فعل الأذرع الإعلامية المصرية والعربية الداعمة للنظام المصري، وبيان مرصد هيئة الإفتاء المصرية، تكشف بوضوح أهمية تلك الاحتفالية التي أغاظت نظام السيسي وداعميه.

أدرك جيدا حالة الاحتقان التي يمر بها شباب الجماعة والكثير من قواعدها، كما أدرك حالة الغضب تجاه قيادة الجماعة التي يحملها الشباب المسؤولية عن -كل أو بعض- ما جرى، ويطالبون بتنحيها، لكن الكثير من هؤلاء الغاضبين يضعون الجميع في سلة واحدة، ويتجاوز الكثيرون منهم حدود اللياقة في النقد، كما أن بعض الطعون تتجه للجماعة ذاتها، والمطالبة بحلها، وهم بذلك يحققون للأنظمة القمعية وللعسكر حلما طالما حلموا به، وسعوا لتنفيذه ولم يقدروا عليه، وظلت الجماعة على مدى ستين عاما لحكم العسكر هي الكيان المدني الوحيد القادر على المنافسة الحقيقية لنفوذهم، والقادر على مواجهة خططهم لتخريب وتغريب المجتمع.

كنت وما زلت من دعاة التجديد والتطوير داخل الجماعة، وعبرت عن ذلك فعلا وقولا وكتابة، وقد جدد القائد خالد مشعل هذه الدعوات في كلمته بالاحتفالية بحضور كبار قادة الجماعة من كل الأقطار. وأعتقد أن مناسبة ذكرى التسعين جديرة بانطلاق خطط التجديد لتتم الجماعة العشرية المقبلة وصولا إلى مئويتها وقد حققت ما عجزت عنه في الحقب الماضية من عمرها. أما إذا لم تتحرك جهود التجديد والتطوير فإن الجماعة تحكم على نفسها بالتراجع أو حتى الاختفاء.

 لقد وضعت الجماعة لنفسها عند التأسيس جملة من الأهداف تبدأ ببناء الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الحكومة الإسلامية ثم الوحدة الإسلامية العالمية، انتهاء بأستاذية العالم. وبالمناسبة فهذه هي رؤية الإخوان المسلمين التي يعملون على تحقيقها منذ نشأة الجماعة وقد قطعوا خطوات كبيرة في ذلك على صعيد الأفراد والمجتمعات وحتى الحكومات، في بعض الدول عبر تحالفات وشراكات مع قوى وأحزاب أخرى. ومن واجب الجماعة في ذكراها التسعين أن تجري جردة حساب لما حققته، وما تعثرت في تحقيقه، وأسباب ذلك، وتضع خططا لتحقيق ما تبقى من أهداف.

وبمناسبة مصطلح الأستاذية الذي تكرر على ألسنة بعض المتحدثين في الاحتفالية (كبارا وصغارا) والذي استغلته أذرع السيسي وحلفاؤه الإقليميين لتشويه صورة الجماعة، والادعاء بأن الإخوان يريدون هذه الأستاذية لأنفسهم، من المهم هنا التوضيح من خلال أدبيات الجماعة أن المقصود بالأستاذية هو الريادة، وهي ريادة مستهدفة للمسلمين عموما وليس لجماعة الإخوان، أو لغيرها من التيار الإسلامي، وهذا هدف مشروع على المدى البعيد، ولا تمنع الأحوال الصعبة الحالية للأمة من التمسك به، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعِد سراقة بن مالك – الذي كان يطارده أثناء الهجرة، ويكاد أن يفتك به – بسواري كسرى وهو ملك إمبراطورية الفرس العظمى في ذلك الوقت بينما كان المسلمون مع الرسول صلى الله عليه وسلم أقلية ضعيفة. كما أن التاريخ يثبت أن المسلمين تمتعوا بهذه الريادة لفترات طويلة حتى أنشد شاعرهم:

ملكنا هذه الدنيا قرونا           *** وأخضعها جدود خالدونا

وسطّرنا صحائف من ضياء    *** فما نسي الزمان ولا نسينا

تاريخيا تعرضت الجماعة للنقد والتجريح والتشويه عقب أزمات كبرى سابقة لدرجة أخافت الأب من ابنه، والزوج من زوجته، وظن الكثيرون في مصر أن الجماعة انتهت منذ منتصف الخمسينيات عقب حادث المنشية وما صحبه من اعتقالات وإعدامات، ثم مرة أخرى عقب اعتقالات وإعدامات منتصف الستينات، وهو ما تكرر مع إخوان سوريا منذ مطلع الثمانينات، ومع إخوان العراق منذ وصول البعث للحكم، لكن الجماعة تمكنت من احتمال تلك الضربات، وعادت مجددا للعمل بين الناس بينما مات من طاردوها سواء بشكل طبيعي أو غير طبيعي.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه