تزييف الأرقام الاقتصادية

حكي لي استاذي اثناء دراستي في مرحلة البكالوريوس-في تسعينيات القرن الماضي-والذي كان يعمل خبيراً في الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء أن تكرار غيابه عن المحاضرات كانت لضغط ظروف العمل الطارئة، فسألته لماذا هذا الضغط ومن المفترض أن معظم المؤشرات الاقتصادية تسير في معدلاتها المعتادة ولم تظهر طفرات ايجاباً او سلباً يمكن أن تغير من الأرقام، فكانت إجابته الصادمة أن الأمم المتحدة قررت تغيير شروط المنح المقدمة للدول الفقيرة فاضطرت الإدارة المصرية الي تعديل أرقام المؤشرات الاقتصادية الكلية لتجعل مصر من مستحقي هذه المنح.

الرقم المحايد

كان هذا عهدي الأول بتزييف الأرقام الاقتصادية في مصر، ثم توسعت في البحث الاقتصادي ومراجعه واكتشفت التضارب الكبير في الأرقام بين الجهات الرسمية المصرية، مما جعل ارقام البنك الدولي هي الرقم المحايد الذي يلجأ اليه الباحث الاقتصادي المدقق أثناء عملية البحث والتحليل، حتى إن بعض كبار الكتاب الاقتصاديين كان يضع للمؤشر الاقتصادي الواحد رقمين أحدهما من جهة رسمية مصرية وآخر من البنك الدولي.

في العقد الأول من القرن الحالي، سيطر رجال أعمال جمال مبارك علي مفاصل الحياة الاقتصادية، كما قولبت مؤشرات الحسابات القومية داخل قالب عالمي صنع في الأمم المتحدة، مما جعل التلاعب بتلك الأرقام صعباً الي حد ما، ولا يخدم صنع قرار رجال الاعمال، ولذلك جاءت الأرقام وحتى 2017 معبرة عن الواقع الي حد ما.

بعد تورط مصر في برنامج صندوق النقد الدولي والانبطاح التام لشروطه، والاعتماد على القروض كرافعة رئيسة لتمويل العملية التنموية، كان من الطبيعي أن تطالب الجماهير الإدارة السياسية بنتائج ما تحملوه من ترويع وتجويع خلال ثلاثة الأعوام الأخيرة، ولأن الشعور العام بأن شيئاً لم يحدث هو الغالب، لا سيما بعد فشل تمرير ما يسمي بالإنجازات والتي لم تفقد فقط قدرتها على تحريك العجلة الإنتاجية، وإنما غابت عنها الرؤية الاستراتيجية لنموذج تنمية حقيقي يقيم العدالة ويقرب الفوارق ويديم النتائج.

كما كان من الطبيعي أن تنتظر المؤسسات الدولية الأرقام الكلية للاقتصاد المصري لتري ثمرة برامجها، وتهلل وتسوق ما جري في مصر، لتمسح عن سمعتها الملطخة بأنات الفقراء وافلاس الدول ادانات وشهادات رأيناها، وكتبها حتى بعض العاملون بها.

وكذلك استعجلت بعض الدول التي يحلم سلاطينها بنموذج الاستبداد المصري، القائم على التجويع والترويع بهدف السيطرة على القطيع، فجاءت تصريحات هؤلاء لتمجد في نتائج تجربة لم يرها غيرهم حتى الان، وكان لسان حال الشعب المصري يقول هل تتكلمون عنا حقاً؟

العودة إلى التزييف

تحت وطأة انتظار الشعب المتململ، والسلاطين الحالمة، والمؤسسات الدولية المتوحشة، وجدت السلطة المصرية ضالتها في العودة الي تزييف الأرقام والمؤشرات الاقتصادية، الا أنه كالعادة غاب عن هذا التزييف الحرفية والمعقولية، والذي من الواضح أن صانعيه استسلموا لحالة أفعل التفضيل – التي يفضلها الديكتاتور المفضل-التي دأبت عليها الحكومة المصرية في وصف مشروعاتها، فكانت نتيجتها أن مفردات مثل الأطول والأعرض والأضخم والأكبر باتت مفردات واسعة الانتشار خلال الأعوام الأخيرة.

فذاك أكبر انخفاض لمعدل البطالة في التاريخ الحديث، وهذا أكبر تراجع لمعدل التضخم في عشر السنوات الأخيرة، وذلك معدل النمو الأعلى في الشرق الأوسط، هذا الاستخدام المفرط لأفعل التفضيل قلب سحر الإنجاز على الساحر الديكتاتور، حتى انتقل الغمز والتندر من الشعب المصري الى وسائل إعلام عالمية رصينة، لم تجد بدا من الاعتماد على خبراء محليين للتعرف عن فن جديد ابتكرته السلطة المصرية وهو فن صناعة الأرقام المزيفة.

وفي إطار حملة صناعة الوعي الزائف عقد الجهاز المركزي للتعبئة العامة والاحصاء بياناً صحفياً في منتصف أغسطس الماضي للكشف عن معدلات البطالة في مصر، والتي بشر بتراجعها بوتيرة متسارعة بدايةً من الربع الأول للعام الماضي، لتنخفض أكثر من 3.8% خلال 18 شهرًا من 11.3% في ديسمبر 2017، إلى 7.5% في يونيو الماضي.

العجيب أن بيان الجهاز حمل العديد من المفاجآت كان أولها إشارته الى انكماش قوة العمل ” كافة الأفراد القادرين والراغبين في العمل مع دفعات الخريجين الجدد من الجامعات”، إلى 28 مليونا و60 ألف فرد في يونيو الماضي مقابل 29 مليونا و40 ألفا في يونيو 2018، و29 مليونا و180 ألف فرد في يونيو 2017، مما يعني تراجع قوة العمل بنحو  مليون و120 ألف عامل خلال عامين، وبنحو 980 ألف فرد خلال 12 شهرًا فقط.

ولم يبرر السادة في الجهاز كيف لدولة مثل مصر يشكو  مسؤولها من التزايد السكاني ان تتراجع فيها قوة العمل، وهل المليون الذين خرجوا عبر هذا التزييف أصبحوا فجأة زاهدين ومترفعين وغير محتاجين للعمل.

المفاجأة الثانية كانت خروج  مليون و400 ألف سيدة من قوة العمل، مما يعني أنهن قررن بشكل جماعي التوقف عن العمل، وهو أمر غير معقول ولا توجد له مبررات حقيقية لا سيما في ظل موجة التضخم العارمة التي اصابت البلاد في اعقاب تطبيق برنامج الصندوق، ليصل عدد النساء فى سوق العمل نحو 3 ملايين و900 ألف عاملة بنهاية مارس الماضي مقابل 5 ملايين و20 ألفا بنهاية يونيو 2018.

المفاجأة الثالثة أنه رغم التراجعات الكبيرة والمتسارعة فى معدلات البطالة إلا أن الاقتصاد لم يضف سوى 280 ألف وظيفة فقط خلال العامين الماضيين، وبما أن أنه يدخل إلى سوق العمل سنويا أكثر من 800 ألف شخص سنويا، فان ارقام الجهاز تفترض أنه تم استيعابهم بالكامل إضافة الي توفير وظائف لرقم مماثل من العاطلين أيضا، وهو ما يعكس بشدة ليس فقط انعدام حرفية وكفاءة المزيف بل انعدام معقولية مجمل الأرقام التي توصل اليها بحث الجهاز.

هكذا انخفض التضخم

يعكس معدل البطالة جدوى الإجراءات الاقتصادية التي تبنتها الدولة خلال المرحلة الماضية، كما يعكس دور معدل النمو في خلق فرص العمل، ووصوله الى طبقات المجتمع المختلفة، وتراجع المعدل الذي هو عنوان بيان الجهاز فندته التفاصيل التي أعلن عنها في نفس البيان، عموما عندما نجد هذا التزييف المتعمد فهذا يشكك بوضوح ليس في معدل البطالة فقط وإنما كذلك في معدل النمو الذي تتغنى به السلطة والمؤسسات الدولية.

كما أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، أن التضخم السنوي لأسعار المستهلكين في مدن مصر انخفض إلى 3.1 % في أكتوبر من 4.8 % في سبتمبر، وبهذا يكون التضخم السنوي في مصر تراجع إلى أدنى مستوى له منذ 9 سنوات، حيث كان آخر أدنى معدل جرى تسجيله كان في سبتمبر 2010.

وبذلك فقد انخفض التضخم من 33% عام 2017 الي 4.3% في العام الحالي، وهو ما وصفته وزيرة التخطيط المصرية أنه انجاز لم يحدث على مدار التاريخ، وهو ما دفع الاقتصاديين للتساؤل عن كيفية هذا الهبوط الضخم والسريع جدا، في خضم تطبيق برنامج اقتصادي عنيف للغاية، تسبب في رفع أسعار مدخلات الإنتاج الرئيسية، خاصة أن أسعار الطاقة التي ارتفعت جراء تطبيق البرنامج والتي هي المكون الأكبر للتكاليف الإنتاجية لم تعاود الانخفاض بما يقارب معدلات انخفاض التضخم.

والحقيقة أن صانع الرقم المصري في إطار سعيه نحو تسويق إنجازات زائفة، غير رقمين في المعادلة الأساسية التي يتم بناء عليها حساب معدل التضخم، وأن هذا التغيير هو المتسبب في الانخفاض، وليس تراجع الأسعار الذي لم يشعر به المواطن، ولأسباب خارجة عن عاملي العرض والطلب في الأساس.

الرقم الأول الذي تلاعبت به السلطة هو سنة الأساس، حيث تنسب أرقام الأسعار الحالية الي ارقام إحدى السنوات والتي كانت تتمتع باستقرار كبير في أسعارها، وتسمي تلك السنة بسنة الأساس، وحتى العام الماضي كانت سنة الأساس التي يقاس الأسعار الحالية مقارنة بها هي عام 2010، وبداية من العام الحالي (الذي حدثت فيه الطفرة التاريخية) غيرت السلطة سنة الأساس لتقاس الأسعار الحالية بأسعار سنة 2018 المتضخمة للغاية، وبالتالي ينتج عن أية مقارنة معها معدلات تضخم منخفضة للغاية،

ولعل ذلك ما يفسر أنه رغم التراجع التاريخي لم تنخفض الأسعار، فقد تراجع معدل الزيادة فقط.

الرقم الثاني الذي تلاعبت به السلطة عند حساب التضخم هو الأوزان النسبية لإنفاق الأسرة المصرية، فقد خفض الوزن النسبي لإنفاق الأسرة المصرية على سلة السلع والخدمات لأجل المعيشة من 39.9% من إجمالي إنفاق الأسرة على الطعام والشراب (والمحسوبة على أساس بحث الدخل والانفاق لعام 2008) الي 32.7% عام 2019(والمحسوبة على أساس بحث الدخل والانفاق لـ عام2017 /2018)

الهبوط المتسارع

وتجدر الإشارة الي أن انخفاض إنفاق الأسرة المصرية على الطعام والشراب كان لصالح زيادة الإنفاق على بنود أخري أقل مرونة مثل المواصلات والسكن والتعليم، وهو ما يعني ببساطة أن المواطن المصري اضطر للتنازل عن إحدى وجباته الثلاثة في مقابل الإنفاق على شيء لا يمكن الاستغناء عنه، ففي ظل موجة ارتفاع الأسعار ستبذل الكثير من التضحيات الكبيرة في سبيل الإبقاء على بنود الإنفاق الأخرى ضعيفة المرونة.

وبذلك فان خفض الإنفاق على الطعام والشراب ساهم بشدة في انخفاض معدل التضخم عند المقارنة بسنة الأساس 2018 والتي ثبتت فيها الي حد كبير أسعار بنود الإفاق الأخرى مثل المواصلات والتعليم والسكن والتي كانت أسعارها وقد وصلت بالفعل الي الحدود القصوى لإمكانيات المستهلك، بمعني أن رفع السعر أكثر من ذلك يعني العزوف عن الاستهلاك رغم ضعف مرونة السلعة أو الخدمة.

من كل ما سبق يمكن التأكيد على أن الهبوط المتسارع والكبير لمعدلات التضخم في مصر لم ينتج إلا بالتلاعب بالمكونات الرئيسة لمعادلة حسابه في الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء، وأن المواطن لم يشعر بذلك الهبوط، وعلى أفضل التقديرات فما حدث خلال الفترة الماضية ما هو إلا تثبيت للأسعار، نتج في الأساس عن تحسن سعر الجنيه أمام الدولار وبالتالي انخفاض أسعار الواردات( الناتج عن تزايد القروض الخارجية وبالتالي الاحتياطي)، كما أنه من المتوقع بعض الانخفاض في أسعار السلع كثيفة استخدام الغاز والتي خفضت الحكومة أسعاره خلال الفترة الماضية، وهي لا تشكل في مجموعها بنداً رئيسيا في معادلة الإنفاق الاستهلاكي للفرد المصري.

كان الحديث السابق حول تزييف رقمي البطالة والتضخم في مصر كاشفاً ليس فقط عن فشل برنامج صندوق النقد الدولي في مصر، وإنما أيضاً فشل مجمل الإجراءات الاقتصادية التي تم التعويل عليها خلال الفترة الماضية، ولأن الدولة المصرية تدرك ذلك فقد قامت بالتلاعبات السابقة، ولو كان الجهاز المركزي للإحصاء أمينا لنشر الأرقام بالمعادلتين القديمة والجديدة، لنجد نسبة 4% لمعدل التضخم الذي هو المعلن حالياً هي نفسها 10% المعلنة طبقاً للمعادلة السابقة من أربعة أشهر، وأنه لم يحدث تقدم حقيقي يذكر.

ومما يدعم ذلك، تصريح وزيرة الاستثمار أن المعادلة الحسابية التي يحسب الاستثمار الأجنبي على أساسها في طور المراجعة هي الأخرى، لتعكس على حد تعبير الوزيرة الأرقام الحقيقية للاستثمار الأجنبي وليس تلك الأرقام التي توالي انخفاضها خلال الفترة الماضية.

التصرفات والتصريحات السابق الإشارة اليها من السلطات المصرية تؤكد تعمد وإصرار الحكومة على تزييف الحقائق الرقمية للاقتصاد المصري، وأن ما تم تزييفه حتى الان هو مجرد بداية سيتبعها العديد من التزييفات الجديدة في المستقبل القريب، وستكون تلك التزييفات علنية، وأن المنظمات الدولية صاحبة مصلحة في اظهار نجاح برامجها وخططها مع الحكومة المصرية، وفي الغالب ستستمر في الإشادة بل والترويج لما تقوم به الحكومة المصرية.

الدول لا تبنى بالتلاعب

وأخيراً يمكن التوجه برسالة لعلها تكون مفيدة الي السلطة المصرية، الدول لا تبني بالتلاعب بالمعادلات الحسابية، ولا بتزييف الأرقام، فالشعب وإحساسه بمقدار التحسن الاقتصادي هو المقياس الأول والأخير، ومصر في حاجة الى نموذج حقيقي للتنمية، يدير عجلة الإنتاج، ويقلص التفاوت بين الطبقات، ويضمن عدالة التوزيع، ويعيد القوة الشرائية الى الفقراء ليشكلوا كما كانوا دائما وقود الطلب المحلي، ويضمن في نفس الوقت استدامة كل ما سبق.

الطريق التنموي سلكه الكثير من الدول، وعلي جانبيه الكثير من الإشارات الإرشادية، فلماذا تصرون على الرغم من اللوحات التحذيرية على الولوج في الطريق الخاطئ، وما التزييف والتدليس إلا مسكنات سرعان ما سيزول أثرها ويبقي المرض العضال الذي يعاني منه الشعب، فهل من مجيب؟؟

 

 

 

 

 

 

 

 

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه