ترمب والقدس: الطريق إلى صفقة القرن

كانت القدس وستظل عنوانا لوحدة الشعوب العربية والإسلامية مع بعضها بل حتى مع حكامها أيضا في أحيان كثيرة، رغم ما يعانونه من قهر على يد هؤلاء الحكام، وعلى الرغم من انشغال هذه الشعوب حاليا بهمومها المحلية إلا أن تحرك الرئيس الأمريكي دونالد ترمب لنقل سفارة بلاده في تل أبيب إلى القدس حرك الضمير العربي والإسلامي مجددا، ونشطت الدعوات لردود فعل تكافئ هذا الحدث الضخم، وتعمل على وقف هذا القرار، أو رفع كلفته على الإدارة الأمريكية.

قرار قديم

القرار الأمريكي الجديد حال تنفيذه سيكون هو الأخطر الذي مر على القدس منذ وقعت تحت الاحتلال الإسرائيلي، ذلك أنه يضفي شرعية على القرار الإسرائيلي بنقل عاصمة الكيان من تل أبيب إلى القدس، ويشجع دولا أخرى على نقل سفاراتها تباعا،  علما بأن القرار الأمريكي هو قرار قديم لكنه ظل معطلا، فقد صدر يوم 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1995، وحمل اسم “تشريع سفارة القدس، ورغم ضغوطات اللوبي اليهودي في الولاءات المتحدة إلا أن الرؤساء السابقين جميعا( جمهوريين وديمقراطيين) امتنعوا عن تنفيذ ذلك القرار، على مدى العقدين الماضيين، لإفساح المجال لحلول سياسية للقضية الفلسطينية، لكن الرئيس ترمب بما يحمله من عنصرية مقيتة، وغرام زائد بالكيان الصهيوني كان يضع هذا القرار على رأس برنامجه الانتخابي، وشرع في مناقشة الخطوات العملية بعد يومين فقط من تنصيبه رسميا يوم 22 يناير الماضي، ولأنه كان مشغولا بأولويات داخلية أخرى، وبترتيبات مع بعض الأطراف الفاعلة إقليميا ودوليا فقد تأخر في تنفيذ القرار حتى وجد الفرصة سانحة الآن مع احتدام الصراعات العربية العربية، ومع هيمنة الأنظمة الموالية لواشنطن على مقاليد الأمور، وقمعها لثورات الربيع العربي، واتفاقها –ولو بطريق غير مكتوب- مع واشنطن على القبول بهذه الخطوة مقابل دعم واشنطن لتلك العروش والأنظمة في مواجهة شعوبها.

لونجحت الإدارة الأمريكية الحالية في تنفيذ قرارها بنقل سفارتها إلى القدس دون رد فعل قوي فإن ذلك سيكون إيذانا ببدء تنفيذ صفقة القرن، وسيعني قبول شعوب المنطقة أو على الأقل عدم قدرتها على مواجهة تلك الصفقة التي ستتضمن تصفية نهائية للقضية الفلسطينية، بعيدا عن أقامة الوطن الفلسطني على الأرض التاريخية الفلسطينيية، وفي المقابل فإن قدرة شعوب المنطقة على إجبار الأمريكان على التراجع عن قرارهم سيكون رسالة قوية برفض تلك الصفقة وإفشالها، وسيحيي الأمل في إقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس.

الشجب والادانة

لا ننخدع كثيرا ببيانات الشجب والإدانة التي صدرت من بعض الأنظمة العربية، فهي فارغة المضمون، وهو ما تدركه إدارة ترامب جيدا، ولو كانت هذه الأنظمة جادة فعلا لهددت بقطع علاقاتها السياسية أو الاقتصادية مع واشنطن، أو على الأقل لهددت الدول التي تقيم علاقات مع الكيان الصهيوني بقطع علاقاتها مع ذلك الكيان، كما هدد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان يوم أمس، أو تقديم الدعم لأي انتفاضة فلسطينية مقبلة، لكن ترامب يدرك أن تصريحات زعماء تلك الدول هي مجرد دخان في الهواء لإرضاء الشعوب وليس أكثر من ذلك، ومن هنا يبقى التعويل الأكبر على غضبة الشعوب العربية والإسلامية وانتفاضتها لمنع هذه الخطوة.

لقد انتفضت الشعوب العربية والإسلامية حين تعرض المسجد الأقصى للحريق في 21 أغسطس 1969، وكان ذلك دافعا لتأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي (التعاون حاليا) التي جمعت الدول الإسلامية تحت مظلة واحدة لأول مرة عقب اسقاط الخلافة، وانتفض الشعب الفلسطيني ومعه الشعوب العربية والإسلامية حين اقتحم أرييل شارون باحة الأقصى في العام 2000 ، وانتفضوا مجددا ومعهم الشعوب العربية والإسلامية حين وضعت سلطات الاحتلال أواخر يوليو الماضي بوابات إلكترونية لمراقبة المصلين في الأقصى حتى أجبروا تلك السلطات على سحب كاميراتها، ولن تكون الخطوة الأمريكية الجديدة أقل خطرا من تلك المواقف السابقة، وبالتالي فهي تستحق انتفاضة شعبية في الداخل الفلسطيني تصحبها وتواكبها انتفاضة عربية إسلامية في كل مكان، فهذه الشعوب ستكون أمام اختبار حقيقي لوجودها، ولاستمرار قدرتها على الفعل الإيجابي والتاثير الدولي، ولتثبت للآخرين أنها قادرة على الدفاع عن مقدساتها، وعن أوطانها، خاصة أنها تستند لمرجعية دولية تضمنها قرار مجلس الأمن رقم 478/1980، والذي يعارض ضم الكيان الصهيوني للقدس الشرقية كجزء من “عاصمة موحدة”.وهو ما يمنع دول الاتحاد الأوربي حتى الآن من نقل سفاراتها إلى القدس خشية الاصطدام بهذا الغضب الشعبي، وهو ما عبرت عنه فيديريكا موغيريني، رئيسة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوربي مؤكدة” أن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس سيكون له “عواقب وخيمة”، وسيثير قلقا شعبيا في أنحاء العالم. ” وموضحة أن الاتحاد الأوربي سيعمل على الإبقاء على بعثته في تل أبيب والاستمرار في احترام قرارات الأمم المتحدة التي تعارض ضم إسرائيل للقدس الشرقية”.

الحضور في الوجدان

لقد كانت القدس حاضرة بقوة في الوجدان الشعبي والحراك الوطني المصري، وزاد حضورها مع الصحوة الإسلامية التي كانت تضعها دائما على قمة اهتماماتها، وكانت الجامعات والنقابات المصرية تنتفض لأي مساس بالأقصى، إلا أن الإنقلاب العسكري في الثالث من يوليو2013 حرم مصر من دورها الريادي في الدفاع عن القضية الفسطينية، فالإخوان المسلمون وغيرهم من القوى الوطنية الذين كانوا يشعلون المظاهرات في كل مكان من الجامعات إلى الجوامع، ومن النقابات إلى النوادي، ومن المدن  الكبرى إلى القرى الصغرى دفاعا عن الأقصى وفلسطين عموما هم اليوم سجناء ومشردون، بل متهمون بالتخابر مع المقاومة الفلسطينيبة، ومع ذلك فالأمل لا يزال قائما في تحرك شعبي مصري يثبت للجميع أن شعب الكنانة لا يزال وفيا للقدس والأقصى رغم خيانة حكامه.

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه