تركيا وتضارب المواقف الامريكية بشأن سوريا

الانسحاب المزعوم للقوات الامريكية ليس انسحابا استراتيجيا، وإن هناك مخططا لإعادة نشر هذه القوات في منطقة أخرى على الحدود مع العراق.

                                         

منذ إعلان الرئيس أردوغان عن نيته القيام بحملة عسكرية في شمال شرق سوريا للقضاء على التنظيمات الإرهابية التى تهدد الأمن القومي التركي، ووحدة الأراضي السورية، والمواقف الأمريكية تزداد تباينا واختلافا على كافة الأصعدة، سواء فيما يخص تصريحات المسؤولين داخل الإدارة الأمريكية وبعضهم البعض، أوتباينها مع التصريحات التى يُدلي بها الرئيس الأمريكي دونالد ترمب، إلى جانب التصريحات التي تصدر من أعضاء الكونغرس الأمريكي حول نفس الموضوع.

تباين التصريحات وتضارب الموقف الأمريكي أفرز حالة من الإرباك والضبابية لدى القيادة السياسة في أنقرة، من حقيقة التوجهات الأمريكية، إذ وجدت تركيا نفسها تتعامل على مدار اليوم مع أكثر من موقف وتصريح، منها ماتجده إيجابيا ويتماشى مع مواقفها واستراتيجيتها، ومنها ما يخالف ذلك تماما.

التهديد بتدمير تركيا اقتصاديا

فالرئيس الأمريكي الذي فاجأ العالم بقرار سحب قوات بلاده من سوريا بعد أن أدت مهمتها التي اٌرسلت من أجلها، وهي القضاء على تنظيم الدولة (داعش)، وتشتيت عناصره، عقب موافقته ضمنيا على قيام تركيا بعملية عسكرية لتطهير شمال شرق سوريا من التنظيمات الإرهابية، عاد وبدون مقدمات ليكيل لها الاتهامات، ويهدد بتدميرها اقتصاديا إذا قامت بضرب تنظيمي العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في سوريا.

تهديد الرئيس الأمريكي ذلك أثار عاصفة من الانتقادات على الساحة السياسية التركية، إذ أعلن وزير الخارجية مولود تشاووش أوغلو أنهم أبلغوا واشنطن عدم خشيتهم من أي تهديد، وأنه ليس ممكنا تحقيق الأخيرة أهدافها عبر التهديد بتدمير تركيا اقتصاديا، بينما دعا المتحدث باسم الرئاسة الرئيس الأمريكي إلى احترام الشراكة بين بلاده وتركيا.

تصريحات نارية للمعارضة التركية

بدورها جاءت التصريحات النارية على ألسنة قيادات االأحزاب السياسية المعارضة، فدولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومي وحليف أردوغان صرح بأن “لتركيا رأس لا ينحني، وذراع لا تُلوى”، أما كمال كيليشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري وزعيم المعارضة في البرلمان فقال إنه “لايمكن لأحد تهديد تركيا بلغة بلطجية الشوارع” مذكرا ترمب بأن تركيا لم تتأسس بمنة من الحلفاء ولكن بدماء ملايين الشهداء.

كما طالب عدد من العسكريين القدامي القيادة السياسية بضرورة اتخاذ موقف أكثر شدة وصلابة من تلك التهديدات الأمريكية، كالبدء فورا في عملية عسكرية ضد العناصر الإرهابية التي تحميها واشنطن، أو القيام بطلعات جوية ..

لتعود الإدارة الأمريكية مرة أخرى وتتحدث عن تفهمها العميق لرغبة تركيا في تأمين حدودها، والمحافظة على أمنها القومي، ويصرح الرئيس الأمريكي برغبته في الاتفاق مع تركيا حول كافة القضايا المرتبطة بالوضع السوري ..
كما أعلن وزير الخارجية مايك بومبينو أن بلاده تعترف بحق الشعب التركي والرئيس أردوغان في الدفاع عن بلدهم من الإرهابيين، لكنه يعود مستدرجا ” لكننا نعلم أيضا أن هؤلاء الذين قاتلوا معنا طوال الوقت يستحقون أن يكونوا بمأمن أيضا “، مشيرا إلى إمكانية التوصل لحل يحقق هذين المطلبين.

تصريحات تفضح النوايا الخفية

استدراج بومبينو وكلامه حول حماية عناصر تنظمات تراها أنقرة إرهابية، إلى جانب تصريحات جون بولتون مستشار الأمن القومي الأمريكي حول أن الانسحاب من سوريا له شروط، وعلى تركيا ضمان سلامة المقاتلين الاكراد، وإلا فإن الانسحاب الأمريكي لن يتم، وضع أنقرة مرة أخرى في مواجهة موقف أمريكي جديد ينطوي على نوايا لم تكن معلنة من قبل ..

ليأتي الرد هذه المرة من الرئيس أردوغان الذي اتهم مستشار الأمن القومي بتعقيد خطة ترمب لسحب القوات الامريكية، معتبرا ذلك “خطأ فادحا”، مضيفا أنه من المستحيل التفاوض مع أحد حول دور الجيش التركي بعد الانسحاب الأمريكي، وأن بلاده ستتصدى لوحدات حماية الشعب مثلما تتصدى لتنظيم داعش.

المواقف الأمريكية المتباينة التي تتأرجح بين تأييد وجهة النظر التركية حينا، والميل باتجاه التنظيمات الكردية التي قامت بتسليحها وتدريبها في أحيان أخرى تؤكد وجود خلافات عميقة داخل الإدارة الأمريكية، تمس أسلوب تعاطيها مع الملفات الخارجية على وجه الخصوص ..
وهو ما يبدو جليا من خلال ذلك التباين والتضارب الصارخ في التصريحات التي تصدر عن كل فريق، والتي يعبر فيها عن رأيه وموقفه دون الأخذ في الاعتبار آراء ومواقف الأطراف الأخرى الفاعلة داخل البيت الأبيض بمن فيهم الرئيس شخصيا، الأمر الذي انعكس سلبا على الأداء الجماعي لهم كفريق، وأساء إلى صورة الولايات المتحدة كأكبر دولة في العالم ..

إذ نجد فريقا يترأسه ترمب يرى أن القرار صائب ويصب في مصلحة الولايات المتحدة التي ضاقت ذرعا بتكاليف حروب ونزاعات منذ سنوات، ولم تجن منها شيئا، وفريقا فاعلا يضم أعضاء من الحزب الجمهوري نفسه يصف القرار بالمتسرع، وطالب ترمب بإعادة النظر في قراره.

 تغير تكتيكي وليس استراتيجي

كما يشير ذلك التضارب بين المسؤولين الأمريكيين إلى أن عملية الانسحاب الأمريكي من سوريا ما هي سوى تغير تكتيكي يستهدف تحقيق عدة مصالح لواشنطن، منها إثارة الخلافات، وإحداث نوع من الفوضى والانشقاق في مسار أستانا بين روسيا وإيران وتركيا،  الثلاثي الفاعل في الملف السوري..
 إذ جاء الاقتراح الأمريكي الخاص بإقامة منطقة آمنة على الحدود السورية – التركية بعمق 20 ميلا، والذي وافقت عليه أنقرة دون استشارة حليفتيها ..
ليثير بوادر أزمة بين الأخيرة وموسكو التي أعلن وزير خارجيتها سيرغي لافروف أن بلاده ” ستناقش ملف إنشاء المنطقة الآمنة المزمعة في شمال العراق مع الرئيس أردوغان خلال زيارته المرتقبة لموسكو، مؤكدا أهمية تقييم إنشاء المنطقة الآمنة من منظور وحدة الأراضي السورية، وقدرة النظام السوري على فرض سيطرته على أراضيه بإسرع وقت”. 

 

كما كشفت تصريحات وزير الخارجية الأمريكي بومبينو التي أعلنها خلال زيارته الأخيرة للعراق حول أن الانسحاب من سوريا ” تغير تكتيكي” وأن ذلك لن يغير من قدرة الجيش الامريكي على التصدي لتنظيم داعش وإيران، مشيرا إلى أن الضغوط على إيران ستتضاعف في كافة المجالات.

الهدف الرئيس إيران

ورغم أن تركيا أرجأت عمليتها العسكرية ضد التظيمات الكردية في شمال شرقي سوريا انتظارا لانسحاب القوات الامريكية، إلا أن حديث بومبيو عن تغير تكتيكي يشير بوضوح إلى أن ذلك الانسحاب المزعوم للقوات الامريكية ليس انسحابا استراتيجيا، وأن هناك مخططا لإعادة نشر هذه القوات في منطقة أخرى على الحدود مع العراق، إذ يبدو أن لدى الإدارة الأمريكية أو جناح فيها –على الأقل- هدفا محددا تسعى إليه من وراء ذلك ، خصوصا في ظل المعلومات المتداولة حول عدم امتلاك وزارة الدفاع الأمريكية خطة متكاملة للانسحاب، ويتمثل هذا الهدف في إفساح المجال أمام توسيع نطاق المواجهة مع إيران عبر استخدام العناصر الكردية التى تم تدريبها على أيدى القوات الأمريكية من العام 2015 وتسليحها بإحداث ما أنتجته مصانع الأسلحة الأمريكية، ووضعها للتصدي للنشاطات الإيرانية، والعمل على الحد من اتساع نفوذها، والحيلولة دون سيطرة قواتها على كافة الأراضي السورية لأن ذلك من شأنه خلق خط مباشر مع حزب الله يتيح نقل السلاح له عبر سوريا والعراق، الأمر الذي يهدد أمن وسلامة اسرائيل.

تصريحات قيادات الكردستاني 

وهو ما يبرر رفض واشنطن إخراج عناصر العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب من شمال شرق لسوريا، وعدم ردها على طلب تركيا بضرورة استردادها الأسلحة التي سبق وأن سلمتها لعناصر التنظيمات الكردية بحجة استخدامها في قتال تنظيم  داعش، إلى جانب التصريحات التي صدرت عن قيادات تنظيم حزب العمال الكردستاني، الذين أعلنوا صراحة أثناء زيارة مستشار الأمن القومي الأمريكي لإسرائيل مؤخرا بأنهم لن يشاركوا في أية عملية ضد إيران في حال لم تحمِهم واشنطن من الضربات العسكرية التركية، وهو التصريح الذى يفسر الشرط الذي تحدث عنه بولتون، ومطالبته تركيا بضمان أمن وسلامة عناصر تنظيمي العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب ..

وهو المخطط الذي دفع على ما يبدو رئيس دائرة الاتصال في الرئاسة التركية فخر الدين آلتون إلى التصريح بأن الأمن القومي التركي غير قابل للتفاوض، مغلقا الباب في وجه أية محاولات أمريكية تستهدف ابتزاز أنقرة، ودفعها لتقديم تنازلات تخدم المصالح الأمريكية على حساب أمنها القومي وسلامة الوحدة الترابية لجيرانها.

ليبقى الحل النهائي والوحيد أمام تركيا لإنهاء تلك المعضلة، ممثلا في ضرورة تطبيق كامل بنود اتفاق أستانا، وحل مشكلة شرق الفرات، والتباحث مع العراق وسوريا والتنسيق المشترك معهما للقيام بعملية عسكرية لتنظيف المنطقة من العناصر الإرهابية المدعومة من الولايات المتحدة.

 

 

 

  

 

المقال لا يعبر عن موقف أو راي الجزيرة مباشر وإنما يعبر عن رأي كاتبه